للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» أَيْ فَلْيَقُلْ خَيْرًا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَوْ يَسْكُتُ عَنْ شَرٍّ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ (وَ) ثَانِيهَا (قَوْلُهُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ) فِي الْمُوَطَّأِ «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَهُوَ مَا لَا تَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَلَا أُخْرَوِيَّةٌ (وَ) ثَالِثُهَا (قَوْلُهُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ) فِي الْبُخَارِيِّ (لِ) لِمُرَجَّلٍ (الَّذِي اخْتَصَرَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ) حِينَ «قَالَ لَهُ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» أَيْ لَا تَعْمَلْ مُوجِبَاتِ الْغَضَبِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ النَّهْيَ عَنْ الْغَضَبِ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ اُسْتُغْضِبَ وَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ

ــ

[حاشية العدوي]

مَالَ إلَيْك نَازِلًا بِك. [قَوْلُهُ: فَلْيَقُلْ خَيْرًا. . . إلَخْ] اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الطَّرَفِ مِنْ الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِ أَسَاسَ كُلِّ خَيْرٍ، وَنَجَاةً مِنْ كُلِّ ضَيْرٍ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيمَا يُرِيدُ التَّكَلُّمَ بِهِ فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا يَجُرُّ إلَيْهَا أَتَى بِهِ. [قَوْلُهُ: أَوْ لِيَصْمُتْ] بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُمِعَ فِيهِ الْكَسْرُ. [قَوْلُهُ: أَوْ يَسْكُتُ عَنْ شَرٍّ. . . إلَخْ] الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ أَوْ يَسْكُتُ عَمَّا لَا خَيْرَ فِيهِ.

[قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا لَا تَعُودُ عَلَيْهِ. . . إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ مَا لَا تَعُودُ. . . إلَخْ يَصْدُقُ بِالْحَرَامِ، وَلَوْ كَبِيرَةً، وَلَكِنَّ التَّعْبِيرَ بِحُسْنِ يَمْنَعُ مَعَ ذَلِكَ وَيَقْصُرُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، أَيْ وَإِذَا كَانَ مَا لَا يَعْنِيهِ مَا ذُكِرَ كَانَ مَا يَعْنِيهِ مَا تَعُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةٌ لِدُنْيَاهُ، أَوْ لِآخِرَتِهِ، أَوْ لِدُنْيَاهُ الْمُوصِلَةِ لِآخِرَتِهِ وَهَذَا أَحْسَنُ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ عج: وَلَعَلَّهُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ، أَوْ لِدُنْيَاهُ الْمُوصِلَةِ لِآخِرَتِهِ عَنْ دُنْيَا تُطْغِيهِ وَتُفْسِدُ آخِرَتَهُ انْتَهَى. وَيَعْنِيهِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ عَنَاهُ الْأَمْرُ إذَا تَعَلَّقَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ. [قَوْلُهُ: لِلرَّجُلِ الَّذِي اخْتَصَرَ. . . إلَخْ] يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَبَا الدَّرْدَاءِ أَوْ حَارِثَةَ بْنَ قُدَامَةَ، أَوْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَوْ غَيْرَهُمْ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ السَّائِلَ مُتَعَدِّدٌ. [قَوْلُهُ: اخْتَصَرَ. . . إلَخْ] قَالَ تت: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْغَضَبَ وَمِنْ ذَلِكَ اخْتَصَرَ هَذَا الْكَلَامَ. [قَوْلُهُ: حِينَ] تَنَازَعَ فِيهِ قَوْلُهُ اخْتَصَرَ. [قَوْلُهُ: فَرَدَّدَ] أَيْ فَرَجَّعَ تَرْجِيعًا مِرَارًا أَيْ حَيْثُ يَقُولُ لَهُ: أَوْصِنِي يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْغَضَبِ لَيْسَ أَمْرًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الْمَرَّاتِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الشُّرَّاحِ. قَالَ: فَأَعَادَهَا لَهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا لَا تَغْضَبْ.

وَقَوْلُهُ: فَقَالَ لَا تَغْضَبْ مُفِيدًا لَهُ أَنَّ عَدَمَ الْغَضَبِ خُصُوصًا فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يُعْتَدُّ بِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْغَضَبِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَعَلَى عَدَمِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَالثَّمَرَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْغَضَبَ مِنْ النَّارِ وَعَجَنَهُ بِطِينَةِ الْإِنْسَانِ فَمَهْمَا نُوزِعَ فِي غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ اشْتَعَلَتْ نَارُ الْغَضَبِ فِيهِ وَفَارَتْ فَوَرَانًا يَغْلِي مِنْهُ دَمُ الْقَلْبِ وَيَنْتَشِرُ فِي الْعُرُوقِ فَيَرْتَفِعُ إلَى أَعَالِي الْبَدَنِ ارْتِفَاعَ الْمَاءِ فِي الْقِدْرِ، ثُمَّ يَنْصَبُّ فِي الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ حَتَّى يَحْمَرَّا مِنْهُ إذْ الْبَشَرَةُ لِصَفَائِهَا كَالزُّجَاجَةِ تَحْكِي مَا وَرَاءَهَا هَذَا إذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَاسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَأَيِسَ مِنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ انْقَبَضَ الدَّمُ إلَى جَوْفِ الْقَلْبِ وَكَمَنَ فِيهِ وَصَارَ حُزْنًا فَاصْفَرَّ اللَّوْنُ، أَوْ مِنْ مُسَاوِيهِ الَّذِي يَشُكُّ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَتَرَدَّدُ الدَّمُ بَيْنَ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ فَيَصِيرُ لَوْنُهُ بَيْنَ صُفْرَةٍ وَحُمْرَةٍ. [قَوْلُهُ: مُوجَبَاتِ] بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى مَا أَفَادَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْ مُسَبَّبَاتِ حَيْثُ قَالَ: أَرَادَ لَا تَعْمَلُ بَعْدَ الْغَضَبِ شَيْئًا مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ لَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ جُبِلَ عَلَيْهِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى مَا لِلْخَطَّابِيِّ أَيْ اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الْغَضَبِ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْغَضَبِ مَطْبُوعٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ مِنْ جِبِلَّتِهِ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ الْغَضَبِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمُعَامَلَاتِهِ، أَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ فَقَدْ يَجِبُ كَالْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَجُوزُ، وَقَدْ يُنْدَبُ «كَغَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُخْطِئِ كَغَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شُكِيَ إلَيْهِ مُعَاذٌ أَنَّهُ يُطَوِّلُ فِي الصَّلَاةِ» . [قَوْلُهُ: مِنْ اُسْتُغْضِبَ] أَيْ طُلِبَ مِنْهُ الْغَضَبُ، أَيْ فُعِلَ مَعَهُ مَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْغَضَبُ وَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ أَيْ فَهُوَ كَالْحِمَارِ مِنْ حَيْثُ الْبَلَادَةِ وَعَدَمِ الذَّكَاءِ إذْ لَوْ كَانَ عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَغَضِبَ. وَأَفَادَ بِهَذَا صِحَّةَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>