الْفِقْهُ وَأَفْضَلُ الدِّينِ الْوَرَعُ» قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْمُذَاكَرَةُ فِي الْفِقْهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ
(وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ) قُرْبُ رِضًا وَمَحَبَّةٍ (إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَوْلَاهُمْ بِهِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً) أَيْ خَوْفًا (وَ) أَكْثَرُهُمْ (فِيمَا عِنْدَهُ رَغْبَةً) أَيْ رَجَاءً (وَالْعِلْمُ) الْمُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى (دَلِيلٌ إلَى الْخَيْرَاتِ وَقَائِدٌ إلَيْهَا) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ
ــ
[حاشية العدوي]
الْفِقْهُ] أَيْ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَيْ مَا يُتَعَبَّدُ بِهِ الرَّبُّ مِنْ صَوْمٍ وَصَلَاةٍ وَحَجٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: الْفِقْهُ أَيْ التَّفَهُّمُ فِي عِلْمِ دِينِهِ وَعِلْمِ شَرَائِعِهِ ثُمَّ بَعْدَ كَتْبِي هَذَا رَأَيْت الْمُنَاوِيَّ ذَكَرَ عَنْ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ مَا نَصُّهُ.
قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: الْفِقْهُ الْفَهْمُ وَانْكِشَافُ الْغِطَاءِ فَإِذَا عَبَدَ اللَّهَ بِمَا أَمَرَ وَنَهَى بَعْدَ أَنْ فَهِمَهُ انْكَشَفَ لَهُ الْغِطَاءُ عَنْ تَدْبِيرِهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى فَهِيَ الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ الْمَحْضَةُ، وَقَوْلُهُ: وَأَفْضَلُ الدِّينِ الْوَرَعُ. . . إلَخْ أَيْ وَأَفْضَلُ التَّدَيُّنِ الْوَرَعُ الَّذِي هُوَ كَمَا قِيلَ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ طَرْفَةٍ، وَالْوَرَعُ يَكُونُ فِي خَوَاطِرِ الْقُلُوبِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخَلِّي عَنْ الشُّبُهَاتِ وَتَجَنُّبِ الْمُحْتَمَلَاتِ وَعَبَّرَ فِي الْفِقْهِ بِالْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ كَالْعِبَادَةِ وَفِي الْوَرَعِ بِالدِّينِ لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى الْيَقِينِ الْقَلْبِيِّ الَّذِي بِهِ يُدَانُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
[قَوْلُهُ: قَالَ مَالِكٌ] لَمْ يَقُلْ وَقَالَ مَالِكٌ. . . إلَخْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ تَأَدُّبًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِيهَامِ الْعَطْفِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلٌ لِلْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْأَوَّلُ.
[قَوْلُهُ: الْمُذَاكَرَةُ] مُفَاعَلَةٌ تَقْتَضِي مُتَعَدِّدًا أَيْ تَذَكُّرُ الْفِقْهِ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بَيَانٌ لِمَا هُوَ الْأَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ نَمَاءِ الْعِلْمِ وَزِيَادَتِهِ وَشِدَّةِ التَّوَثُّقِ، وَهُوَ يَشْمَلُ إفَادَتَهُ لِلْمُتَعَلِّمِينَ وَتَفَهُّمَهُ مِنْ الْمُتَسَاوِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بَيَانٌ لِمَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَكْمَلُ وَإِلَّا فَتَذَكُّرُ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ أَيْضًا مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَرَادَ بِهَا مَا عَدَا السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالرَّوَاتِبَ لِمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْأَوْلَى لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِعْلُ الرَّوَاتِبِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُذَاكَرَةُ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْعِبَادَاتِ النَّافِلَةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَرَادَ بِهِ أَيْضًا مَا يَشْمَلُ آلَاتِهِ الْمُتَوَقِّفِ هُوَ عَلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْبِرِّ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ وَمَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ» وَرُوِيَ أَيْضًا: «لَبَابٌ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا» وَأَيْضًا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا جَاءَ الْمَوْتُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ» ، [قَوْلُهُ: فِي الْفِقْهِ] أَرَادَ بِهِ عِلْمَ الْفِقْهِ
[قَوْلُهُ: قُرْبُ رِضًا وَمَحَبَّةٍ] هُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا إمَّا إرَادَةُ الْإِنْعَامِ أَوْ الْإِنْعَامُ فَهُمَا إمَّا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَإِمَّا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ هِيَ الْمَيْلُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ، وَأَرَادَ مَيْلًا يَلْزَمُهُ مَا ذُكِرَ لَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فَهُوَ كَالْعَدَمِ، [قَوْلُهُ: وَأَوْلَاهُمْ بِهِ] أَيْ بِمَعُونَتِهِ وَنَصْرِهِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ خَوْفًا] مُفَادُهُ أَنَّ الْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: الْخَوْفُ هَرَبُ الْقَلْبِ مِنْ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِهِ، وَالْخَشْيَةُ أَخَصُّ مِنْ الْخَوْفِ فَهِيَ لِلْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ أَيْ فَخَشْيَةُ اللَّهِ هِيَ خَوْفُ عِقَابِهِ مَعَ تَعْظِيمِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ ظَالِمٍ فِي فِعْلِهِ بِخِلَافِ مُطْلَقِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ تَهْدِيدِ الظَّالِمِ لَهُ.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» قَالَ الْعِزُّ: فِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ حَالَةٌ تَنْشَأُ عَنْ مُلَاحَظَةِ شِدَّةِ النِّقْمَةِ الْمُمْكِنِ وُقُوعُهَا، وَقَدْ دَلَّتْ الْقَوَاطِعُ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مُعَذَّبٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْخَوْفُ فَكَيْفَ أَشَدُّ الْخَوْفِ قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الذُّهُولَ جَائِزٌ عَلَيْهِ فَإِذَا ذَهَلَ عَنْ مُوجِبَاتِ نَفْيِ الْعِقَابِ حَدَثَ لَهُ الْخَوْفُ لَكِنْ يَرِدُ أَنْ يُقَالَ اجْتِمَاعُ أَكْثَرِيَّةِ الْخَوْفِ وَأَكْثَرِيَّةِ الرَّجَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْأَوَّلَ مِنْ شِدَّةِ التَّحَرُّزِ مَا لَا يَلْزَمُ الثَّانِيَ، وَالتَّنَافِي فِي اللَّوَازِمِ يُوجِبُ التَّنَافِيَ فِي الْمَلْزُومَاتِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يُعْتَبَرُ الْحُصُولُ فِي وَقْتَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا قَامَ بِهِ الْخَوْفُ فِي وَقْتٍ يَشْتَدُّ تَحَرُّزُهُ بِحَيْثُ يُلْجِئُهُ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ فَضْلًا عَنْ الْمُشْتَبَهِ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الرَّجَاءُ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَتَقَوَّى لَا تَقُومُ بِهِ شِدَّةُ التَّحَرُّزِ فَلَرُبَّمَا قَدِمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهِ مُقَلِّدًا لِمَنْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ.
[قَوْلُهُ: الْمُقَرِّبُ. . . إلَخْ] لَا حَاجَةَ لِقَوْلِهِ الْمُقَرِّبُ إذْ الْعِلْمُ حَقِيقَةً مَا أَوْرَثَ خَشْيَةً وَعَمَلًا قَالَهُ عج نَقْلًا عَنْ سَيِّدِي