«تَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ» .
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ عِبَادِهِ تَعَالَى (لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) بِمَعْنَى مَعْلُومَاتِهِ (إلَّا بِمَا شَاءَ) فَيُعَلِّمُهُ لَهُمْ وَيُحِيطُونَ بِهِ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْكُرْسِيَّ جِرْمٌ مَحْسُوسٌ لِمَا صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ جِسْمٌ عَظِيمٌ تَحْتَ الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لُؤْلُؤَةٌ.
وَقَالَ عَلِيٌّ وَمُقَاتِلٌ: كُلُّ قَائِمَةٍ مِنْ الْكُرْسِيِّ طُولُهَا مِثْلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ، (وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ مَا فِيهِمَا (وَهُوَ الْعَلِيُّ) بِالْمَنْزِلَةِ (الْعَظِيمُ) الْقَدْرِ الرَّفِيعُ النَّعْتِ الَّذِي يَصْغُرُ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ، وَهُنَا انْتَهَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَهِيَ خَمْسُونَ كَلِمَةً حَاوِيَةٌ لِخَمْسِينَ بَرَكَةً،
ــ
[حاشية العدوي]
الْعَوَارِضِ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْمَائِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لَدَى جِنْسٍ وَنَوْعٍ وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى الْمَوْلَى جَلَّ وَعَزَّ، وَأُجِيبُ بِالتَّسَمُّحِ.
[قَوْلُهُ: تَفَكَّرُوا إلَخْ] الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ إذَا كَانَ الْفِكْرُ وَسِيلَةً لِمَعْرِفَةٍ وَاجِبَةٍ، وَلِلنَّدْبِ إذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمَعْرِفَةٍ مَنْدُوبَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَتَفَكَّرُوا فَالنَّهْيُ تَحْرِيمٌ. [قَوْلُهُ: فِي ذَاتِهِ] الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ.
[قَوْلُهُ: مِنْ عِبَادِهِ] مِنْ بَيَانِيَّةٌ [قَوْلُهُ: بِمَعْنَى مَعْلُومَاتِهِ إلَخْ] لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْ عِلْمِهِ تَجَزُّؤَ الْعِلْمُ مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ، أَوَّلَهُ الشَّارِحُ بِأَنَّهُ مِنْ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَيُجَابُ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ مُتَعَلِّقُ عِلْمِهِ.
[قَوْلُهُ: إلَّا بِمَا شَاءَ] بَدَلٌ مِنْ شَيْءٍ أَيْ إلَّا بِالْمَعْلُومِ الَّذِي شَاءَ، إحَاطَتَهُمْ بِهِ فَمَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً؛ لِأَنَّ الْعِبَادَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ، أَيْ إرَادَتِهِ. [قَوْلُهُ: وَيُحِيطُونَ بِهِ] مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، أَيْ وَيَعْلَمُونَ بِهِ بِسَبَبِ تَعْلِيمِهِ لَهُمْ، قَوْلُهُ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: ٢٥٥] إلَخْ أَيْ لَمْ يَضِقْ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِسَعَتِهِ فَالسَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جَنْبِ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ.
[قَوْلُهُ: السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ] جَمَعَ السَّمَوَاتِ وَأَفْرَدَ الْأَرْضَ مَعَ أَنَّهَا سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السَّمَوَاتُ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْ نُجُومٍ وَقَمَرٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ إلَّا وَاحِدَةٌ.
[قَوْلُهُ: جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ] مُقَابِلُهُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ عِلْمُهُ، تَسْمِيَةً بِمَكَانِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ كُرْسِيُّ الْعَالِمِ، أَوْ مُلْكُهُ تَسْمِيَةً بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ كُرْسِيُّ الْمُلْكِ أَوْ قُدْرَتُهُ.
[قَوْلُهُ: مَحْسُوسٌ] وَصْفٌ كَاشِفٌ.
[قَوْلُهُ: تَحْتَ الْعَرْشِ. . . إلَخْ] وَضَّحَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: هُوَ جِسْمٌ عَظِيمٌ نُورَانِيٌّ بَيْنَ يَدَيْ الْعَرْشِ مُلْتَصِقٌ بِهِ، لَا قَطْعَ لَنَا بِحَقِيقَتِهِ اهـ.
[قَوْلُهُ: فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ] وَهَلْ هُوَ مُلْتَصِقٌ بِهَا أَوْ لَا.
[قَوْلُهُ: لُؤْلُؤَةٌ] مُقَابِلٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْبَعْضُ، [قَوْلُهُ: كُلُّ قَائِمَةٍ مِنْ الْكُرْسِيِّ] الْقَائِمَةُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ، وَهَلْ تِلْكَ الْقَوَائِمُ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ؟ أَوْ لَيْسَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى شَيْءٍ بَلْ قَائِمَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْظُرْ مَا عَدَدُ تِلْكَ الْقَوَائِمِ.
[قَوْلُهُ: طُولُهَا مِثْلُ السَّمَوَاتِ] وَهَلْ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُونَ، الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ سَعَةَ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ كَذَلِكَ وَالْأَرْضِينَ، كَذَلِكَ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَوْ وَلَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
[قَوْلُهُ: أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ مَا فِيهِمَا] أَيْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ مَا فِيهِمَا، وَأَوْلَى حِفْظِهِمَا إذْ لَوْ شَقَّ عَلَيْهِ لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ مُحَالٌ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي تَأْوِيلِ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَا فِيهِمَا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ لِكَثْرَتِهِ كَثْرَةً لَا يَعْلَمُهَا إلَّا خَالِقُهَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْكَثِيرُ لَا يُتْعِبُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ حِفْظُهُ فَأَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَهُوَ ذَاتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الْآيَةَ نَاصَّةً عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ، [قَوْلُهُ: الْعَلِيُّ بِالْمَنْزِلَةِ] أَيْ الْمَرْتَبَةِ أَيْ لَا عُلُوَّ مَكَان وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ.
[قَوْلُهُ: الرَّفِيعُ النَّعْتِ] أَيْ الْمُرْتَفِعُ الْوَصْفُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ أَيْ أَنَّ صِفَاتِهِ مُرْتَفِعَةٌ ارْتِفَاعًا مَعْنَوِيًّا، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ الرَّفِيعُ النَّعْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ تَفْسِيرًا لِشَيْءٍ مِنْ الْآيَةِ، الْإِشَارَةُ إلَى تَفْسِيرِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: يَصْغُرُ إلَخْ] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ التَّعْلِيلُ وَأَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ التَّوْصِيفُ.
[قَوْلُهُ: هُنَا انْتَهَتْ إلَخْ] لَعَلَّ فَائِدَةَ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ وَهُوَ مَعْلُومُ