للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهو أعجوبة في سرعة الفهم، وغاية في الحفظ، وآية في حسن التصور، له حدس يظن أنه الكشف، وفكر كأن دقّته خفىّ اللّطف، وتأمّل يرفع الأستار عن غوامض الأسرار، وصبر متين، وجلد مبين، وقلب على نوب الأيام ثابت، وجنان من صروف الدهر غير طائش، وشجاعة متقنة، يتجرع الغصّة، وينتهز الفرصة، وعزم برويّة، وجزم يزينة اتقاد العزم، وما أصدق قولي في مناسبة كثير من صفاته لاسم أبيه:

وكم خلق في شيخ لسلام عزوه … إلى اسم أبيه من جمال جلاله

فنسبته منه رزانة عقله … وما حازه من صبره واحتماله

وذهن كنار قد ورت، ولجسمه … جلاد قوى مثل قلب جداله

وخشيته لله تعلو، وبذله … أجلّ، وفيض العلم أعلى كماله

لازمته حضرا، وصحبته سفرا، فرأيت منه الغرائب.

كان الأتراك سنة ست وثلاثين (٣٦٦) يتعجبون منه في قوة صبره على شدائد السّير، يركب البغل مرة والهجين أخرى ويثنى رجله على كوره (٣٦٧)، ويسبق فينزل إلى الكتابة والمطالعة حيث يترك غيره إلى النّوم والراحة، ولا يقطع قيام ثلث الليل الآخر مع جهد ذلك السفر العنيف.

أوقاته مشحونة بالأشغال، قد جعل نصب عينيه أن هذه الدنيا دار ليس فيها راحة، فخفف ذلك عنه كل تعب، فهو لا يمكث لحظة بغير عمل.

بلغني أنه ذهب مرة إلى مدرسة محمود ليكشف عن شئ فلما وصل تذكّر أنه نسي المفتاح فأرسل من يحضر نجارا ليفتح الباب، فقام يتنفّل بالصلاة حتى جاء.

لا تشغله النزهة عن عمل ما يعمله في البيت، وربما التمس منه أكابر أصحابه البطالة حينئذ فيقول: «ما فائدة ذلك إلا محادثتكم ومشاركتكم في جميع ما أنتم فيه لا ما أنا فيه، وفلا يفوتهم شئ من أنسه. لا مثل لملكته


(٣٦٦) أي سنة مصاحبته للسلطان برسباى في حملته على آمد سنة ٨٣٦ هـ.
(٣٦٧) «الكور» هي الرّحل يسافر عليه المرء.

<<  <  ج: ص:  >  >>