ومنها: أنى كدت أغرق في زير، وذلك أنى دخلت إلى مدرسة بيبرس في شدة الحر وأنا شديد العطش، فنظرت فلم أجد بها ماء إلا في قعر أحد أزيارها وهو كبير جدا، فمددت يدي بالكوز إلى الماء فحملني الطمع على أن زدت شيئا، فانقلبت على رأسي وأيقنت بالهلكة، فجعلت رأسي في جانب الزير وأسفلى (٥٦٠) في جانبه الآخر واستدرت جدا، وأردت الاعتماد بيدي في جوانب الزير فإذا هي شديدة اللزوجة من الطين الذي قد لصق بها من الماء، لا تثبت بها وأنا مع ذلك انخفض إلى الماء قليلا قليلا حتى وصل رأسي إليه وأنا في هذه الحالة-بشهادة الله-أتفكّر في أنّ الناس يستسمجوننى على هذه الموتة، فيقال مات الحجازي، فيقال متى؟ فيقولون الساعة رأيناه!! فيقال:
غرق؟ فيقال: في البحر؟ فيقال: لا، فيقال: في البركة؟ فيقال: لا، فيقال: في الخليج؟ فيقال: لا، فيقال: في البئر؟ فيقال: لا، بل في الزير، فيشتد التعجب من ذلك ولا تحكى لهم الحكاية إلى آخرها على وجهها حتى يتداعى الناس لسماع ذلك من كل ناحية ويستقبلنى كل من يسمع ذلك ويقولون:«هذا رجل لا يدع التغريب لا في حياته ولا في مماته».
فلما وصل رأسي إلى الماء تداركني اللّه بلطفه فوقعت يدي على نقرة في الزير صغيرة فاعتمدت عليها بإصبعى ولم أزل أبذل جهدي حتى تخلصت وقد بلغت الروح التّراقى وأيقنت أنه يوم فراقي.
*** ومنها أنه اتفق يوما أن جعلت. جميع لباسى جديدا حتى العمامة والقبقاب وذهبت لبعض شأني، فلما كنت بالصنادقيين عند دكان الشرائحى واتفق أن ذبح أحد غلمان الجرائحى وزّة فانفجر من ودجيها عينا دم فصعدا كالسهم، فأصابا عمامتي ولوّثا ما دونها من لباسى حتى سير القبقاب وأخذت كلا منى ومن الذابح بهتة، فبقى كل منا على حاله: أنا واقف مكاني وهو ممسك برقبتها والدم فائر علىّ حتى امتلأت ثيابي، فرجعت لأغيّرها، فلما