رؤوس الطبقات، وتولية القفا عند الملتقى. فقال: يا سيدي إن سفرك يهد من الناس أكثر مما تهد منهم هذه النازلة. فأقام، وقال: لئن اجتمع بي ليرين مني شيئا ما رآه من أحد قط، غير أنه لا يراني ولا أراه. فمات قبل دخوله دمشق بأيام قلائل.
قال: وسأله الشيخ أحمد الحجيري-بفتح المهملة وكسر الجيم-بالجامع الأموي في الإقامة بدمشق فنهاه عنها، فقال: يا سيدي، إن السلطان قد وصلت طلائعه فبكا وقال: مثله كمثل شخص الجبال يرقص ساعة ويغطس.
قال: وأخبرني الشيخ ناصر الدين التنكزي، قال: بينما أنا ورفيقي نتجاذب أمر السفر والإقامة، وهو يقول: والله ما أقيم، وأنا أقول: والله ما أرحل، ويقضي الله أمرا كان مفعولا، وإذا الشيخ قد أقبل فنظر إلى وقال: كل [ما](١) ملكناه ذاهب، حنن الله عليك القلوب. وقال لرفيقي: لا تبت في البلد. فكان من أمري أنه ما سلم لي شيء قيمته درهم، غير أن الله عطف على القلوب.
قال ولده: وخرج مع أصحابه يوم السبت ثالث شهر ربيع الآخرة إلى المقابر، فلما كان بين صلاتي الظهر والعصر، قال: في مثل هذا اليوم أكون تحتها-وأشار إلى الأرض- فمرض يوم الأحد، فكان يقول لولده في أيام مرضه بعد أذان الصبح: هات لي بفلسين ماء حارا من الحمام، فيتوضأ به. فلما كانت ليلة السبت عاشر الشهر قال: من نحو ثلث الليل الأخير: قم هات ماء حارا، ثم ولى ولده على حمام لا يغلق ليلا. فلما توضأ، ثم وضعت بين يديه مخدة وهو في النزع متوجه ذاكر، ويلتفت من نزعه وتوجهه فيقول:
أذن؟ يفعل ذلك حينا بعد حين إلى أن قيل: أذن. فركع ركعتين خفيفتين ثم حمل إلى الفرش، فوالله ما استقر رأسه على المخدة حتى خرجت الروح من رجليه. ﵀.
واجتمع في جنازته من الخلق ما لا يكاد تحت الحصر، ومشوا على غاية من الخفر والسكينة لا تكاد أنفاسهم تسمع، فضلا عن غير أن يقع كلام. فقال قاضي القضاة علاء الدين بن أبي البقاء-أكرمه الله-بعد موته بما كان يحبه في حياته من السكون ووقع، ولما أدخل لحده كانت في الوقت الذي قال لأصحابه فيه أكون تحتها. ﵀. وكان له من العمر يوم موته ستا وخمسين سنة. ﵀.