ولما ظهر النبوغ العلمي بفاس وفضل علمائهم الأكياس، أخذوا بتلك التقاليد، ولكن غالب عملهم كان تابعا لعمل الأندلس من لدن تغلب الأمويين على المغرب أخر القرن الثالث وأول الرابع، وكان أهل فاس ميالين لمملكة الأمويين لعدلهم، واعتدال مذهبهم السني منابذين للعبيدين الشيعة بالقيروان، فكانوا يأخذون بعمل الأندلس غالبا ويقدمونه على عمل القيروان، ثم صار لهم عمل مخصوص بهم بعد استقلالهم في السياسة زمن الملثمين، ثم الموحدين، ثم بني مرين ومن بعدهم، فهذا ابتداء ما يسمونه بالعمل الفاسي، وقد كان من موجبات هرم الفقه أيضا، وذلك أن بعض المسائل فيها خلاف بين فقهاء المذهب، فيعمد بعض القضاة إلى الحكم بقول مخالف المشهور لدرء مفسدة، أو لخوف فتنة، أو جريان عرف في الأحكام التي مستندها العرف لا غيرها، أو نوع من المصلحة، أو نحو ذلك فيأتي من بعده، ويقتدي به ما دام الموجب الذي لأجله خالف المشهور في مثل تلك البلد، وذلك الزمن، وهذا مبني على أصول في المذهب المالكي قد تقدمت، فإذا كان العمل بالضعيف لدرء مفسدة فهو على أصل مالك في سد الذرائع، أو جلب مصلحة، فهو على أصله في المصالح المرسلة وتقدم ما فيه من الخلاف وأن شرطه أن لا تصادم نصا من نصوص الشريعة ولا مصلحة أقوى منها أو جريان عرف، فتقدم أنه من الأصول التي بني الفقه عليها، وأنه راجع للمصالح المرسلة أيضا.
فيشترط فيه ما اشترط فيه، فتنبه لهذا كله، فإذا زال الموجب، عاد الحكم المشهور؛ لأن الحكم بالراجح، ثم المشهور واجب، وهو من الأصول الشرعية العقلية، ففي "جمع الجوامع" في كتاب التعادل والتراجيح ما نصه: والعمل بالراجح واجب، وقال القاضي: إلا ما رجح ظنا؛ إذ لا ترجيح بظن عنده، وقال البصري: إن رجح أحدهما بالظن، فالتخيير. ا. هـ. والعمل بالضعيف في الفتوى والأحكام حران إلا المجتهد ظهر له رجحانه فلا يبقى ضعيفا عنده، ولا عند من قلده، أو لضرورة دعت المقلد لعمل به في نفسه يوما ما، ويشترط في القاضي الذي حكم به أن يكون فقيها عادلا لا جاهلا ولا جائرا زاد الهلالي في