من الفوضى من رقة الديانة، صار الناس إلى القوانين الوضعية، ونبذوا الشريعة ظهريا، وساء ظنهم فيها مع أنه لا ذنب على الشريعة التي فتحت باب الاجتهاد، وباب المصالح المرسلة ونحوها، وإنما الذنب على بعض من العلماء المقلدين الجامدين المتعصبين الذين جعلوا الدين أحبولة، ولا عيب على المتقدمين والسلف الصالح رضوان الله عنهم.
وليس مالك أو الشافعي، أو أبو حنيفة برسل بعثوا كل إلى قطر أو مملكة لا تجوز مخالفتهم، كما قال عز الدين بن عبد السلام أولهم في أرض الله مناطق نفوذ لا يعدوها غيرهم، وإنما هي آراء أخذوها بحكم الاجتهاد، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا، وشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ليست شريعة جمود وآصار، كما كانت شريعة بني إسرائيل، ولا هي شريعة مانعة للأمة من الترقي والتطور مع الأحوال، بل شريعة صالحة لكل زمان وكل مكان وكل أمة، فلذا كانت بعثته عليه السلام عامة لسائر الأمم إلى قيام الساعة، وذلك لا يتأتى مع الجمود؛ لأن العالم كله متغير ومتطور.
ولذلك كان فيها الناسخ والمنسوخ بسبب ما كان في الزمن النبوي من تغيرات الأحوال، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ١ إن هذه الآية يعود العمل بها في آخر الزمان، ولهذا أيضا كان من أصولها سد الذرائع، والمصالح المرسلة، والقياس، والاستحسان، إلى غير ذلك مما تقدم.
وقد أفتى بعض علماء أفريقية بجواز المعاملة الفاسدة إذا عم الفساد، نعم ما هو صريح القرآن والإجماع والسنن المتواترة، أو المجمع عليها أو الصحيحة، والأحكام التي اتفقت الأمة على العمل بها وتأييدها، فلا سبيل للخروج عنه، وكذلك كل ما لم تحوجنا ضرورة للخروج عنه من قول راجح أو مشهور مذهبي، فلا منافاة بين ما هنا وبين ما سيأتي في ترجمة: هل انقطع الاجتهاد؟