للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والريح ريح مسك" , حيث وقع تشبيه دم الشهيد بالمسك؛ لأنه في سياق التكريم والتعظيم, فلو كان نجسًا لكان من الخبث ولم يحسن التمثيل به في هذا المقام، وأمثال هذا كثيرًا، كل ذلك بحسب مدراكهم وأخذهم من اللوازم والسياق والمعنى الذي لأجله وقع الأمر أو النهي، فإذا وقع التصريح بعلة الحكم عدوا ذلك إذنًا في القياس, فقاسوا على الصورة التي جاء النص فيها كل صورة وجدوا فيها تلك العلة, وقيل ليس بإذن، وعليه ذهب في جمع الجوامع.

هذا وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام الأربعة: ثلاثة متفق عليها: وهي لفظ عام يحمل على عمومه، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} ١ اتفق المسلمون أنه متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك كخنزير الماء، وخاص يحمل على خصوصه كقوله -عليه السلام: "أبو عبيدة أمين هذه الأمة" ٢، وعام يراد به الخصوص كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ٣, اتفق المسلمون أن ليس وجوب الزكاة في جميع أنواع الأموال، والرابع مختلف فيه, خاص يراد به العموم نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ٤، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فيفهم منه تحريم الشتم والضرب فأعلى.

ثم الألفاظ التي يؤخذ الحكم منها, إما أن تكون دالة على معنى واحد لا تحتمل غيره، وهو النص، ولا خلاف في وجوب العمل به، أو يحتمله وغيره على حد السواء وهو المجمل، وهذا لا يوجب حكمًا بلا خلاف، أو يكون دلالته على أحد المعنيين أو المعاني أرجح, فيحمل عليه إلّا إذا دلَّ دليل على حمله على المرجوح فيحمل عليه, ويسمى هذا الحمل بالتأويل, وهنا تتشعَّب المدراك في الدليل، وفي دلالته بهذه الصورة نشأ اجتهاد المجتهدين في عصره -عليه السلام, وإقراره لهم عليه, ثم بعده, ويأتي مزيد بيان له إن شاء الله تعالى.

ومما تؤخذ منه الأحكام فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمر, ومداومته عليه, وإظهاره في جماعة, فيكون ذلك دليل أنه سنة عند المالكية, مندوب عند غيرهم, ما لم يصرح


١ المائدة: ٣.
٢ متفق عليه: البخاري "ج٥/ ٣٢"، ومسلم "ج٧/ ١٢٩".
٣ التوبة: ١٠٣.
٤ الإسراء: ٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>