أرى أنه لا عسر على من شاء الموازنة أن يضع بين يديه بداية ابن رشد أو قوانين ابن جزي مثلا، ويوازن بين كثير من الأحكام في المذاهب في شتى الأبواب، فلا شك أنه يجد التسامح والشدة مشاعة بين المذاهب ما قلتم؛ لأن كل واحد أخذ حظه من الرخص والعزائم، ولكن إذا دقق النظر، وجد الأكثرية في جانب الحنفية على وجه الإجمال، سواء في الأبدان أو الأموال، لو شاء الحنفي المطلع ألا يؤدي زكاة لفعل لفتح باب الحيل، ولو شاء أن لا يقام عليه حد، لأمكن لأخذهم بدرء الحد بأدنى شبهة إلى أبعد نهاية حتى إنهم لا يجمعون بين حد السرقة وأداء المسروق لئلا يجمعوا على السارق مصيبتين.
وإذا نظرنا إلى أصول المذاهب الأربعة في الجزأين ٢ و٣ من الفكر السامي فإن نجد مذهب الحنفية بني على النظر إلى علل الأحكام وحكمها المقصود من التشريع أكثر من غيره، ولم يعتبر سد ذرائع الذي اعتبره المالكية والحنابلة، ورخص في الحيل للتخلص من المضايق وهي نوع من الترخيص والتوسعة المناسبة للتطور الكوني، ولم يتقيد بالجمود على ظاهر السمعيات، وألغى مفهوم المخالفة الذي هو نحو ربع السمعيات، وشدد في شروط العمل بخبر الواحد حيث اشترط فيه الشهرة وإن تساهل في حمل مجهول الحال، لا مجهول العين على الدالة، واشترط فيما يعارض القياس منه أن يكون الراوي فقيها على تفصيل وخلاف في ذلك، فيتسنى لنا الحكم بأنه أوسع المذاهب وأكثرها تسامحا على وجه الإجمال، وألينها في يد المفتي الذي يضطر لتغير الأحكام بتغير الأحوال فيجده أيسر انطباقا على الحاجيات الوقتية المتجددة في كثير من الفروع والأبواب، وعلى ناموس