للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذ كل إنسان مجبول بفطرته على الجهاد في سبيل جلب المصلحة, أعني: اللذة, ودفع المفسدة وهي الألم. فجاء الشرع لتأييد ذلك, ولكن باعتدال بحيث لا يخرج إلى حب الذات، وهو عدم الاكتراث بصالح العموم، ثم أرشدنا إلى ما هي المصالح وما هي المضار, وإلى طريق الجلب والدفع؛ لأن الإنسان قد يغلط في الطرق الموصلة لها. فالشرع حكيم كالطبيب العارف بقوانين حفظ الصحة ودفع المرض, ودليل مرشد إلى ما هي اللذة الحقيقية, والطريق الحقيقي الموصل لجلبها فيأمر بها, ويرشد إلى القدر الذي لا يضر منها ليتناولها باعتدال؛ كإباحته الاكتساب, ونهيه عن الشره والجشع والغش والتدليس ونحوهما. وكإباحة التنعيم بالطيبات, ونهيه عن السرف، مثل الطبيب الذي ينهى عن الشبع خوف التخمة، ومرشد إلى ما هو الألم الحقيقي, والطريق الموصل إلى دفعه، وهذه المصالح هي حكم الأحكام المرتبة على العلل التي لأجلها شرع الحكم.

فمن أنكر القياس وزعم أن الشرع تعبدي كله, فقد عطَّل الحكمة ولم يفهم الشريعة حق فهمها, وجعلها شرع جمودًا وآصار، مع أنها موصوفة في القرآن بضد ذلك، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ١، ويأتي مزيد بسط لهذا في ترجمتي أبي حنيفة وداود الظاهري, فهو تكملة لما هنا، وكفى ما تقدَّم لنا في مسألة النسخ والحكمة التي شرع لأجلها, ففي ذلك إرشاد إلى أن الأحكام روعيت فيها المصالح الراجعة إلى سعادة الأمة في الدارين معًا، قال تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ٢، ولهذا كان كثير من أحكام المعاملات يتغير بتغير الأحوال وتطور الأمة, كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. ومن هنا جاءت المصالح المرسلة وسد الذرائع وغيرهما مما يأتي، ولهذا نظر أولوا البصائر من علماء الشرع في الأحكام كي يجدو لها عاملًا، فما وجدوه بطريق النصِّ أو الإجماع أخذوه, وإلا استنبطوا من الاقتضاءات والإيماءات، والسبر والقسيم. والإخالة والمناسبة التي هي الملايمة للطبع بجلب لذة أو دفع أمل مما هو من مقاصد الشرع، التي تنقسم إلى ضروري وحاجي وتحسيني، فإن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هو في رتبة الضرورات، وإلى ما هو في رتبة الحاجيات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات،


١ الأعراف: ١٥٧.
٢ القصص: ٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>