للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على مجهول الحال، قالوا: إن لم يضرب عسر إظهار السرقات، لكن عارضت هذه المصلحة مصلحة المضروب؛ إذ ربما يكون بريئًا, وترك عقوبة مذنب خير من ظلم بريء, وما جعل الشرع اليمين إلّا لئلَّا تضيع المصلحة الأولى كليًّا, فقد يستخرج به المسروق, أمَّا إذا عارضها نصٌّ فتلغى عن مالك وغيره، ولذلك انتقد المالكية على يحيى بن يحيى الأندلسي١ لما أفتى الأمير عبد الرحمن الأموي حين وطء في نهار رمضان بتعين شهرين متتابعين, فقيل له: قد ضيَّقت عليه, هلَّا أفتيته بالعتق, فقال: إنه أمير يهون عليه العتق فيفطر كل يوم ويعتق. بأنها فتوى شاذة لأخذه بالمصلحة في مقابلة النص وذلك لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى تغيير حدود الشريعة بتغير الأحوال, فتنحل رابطة الدين وتنفصم العرى، وفي معناه من أفتى أميرًا مترفهًا سافر من المجاورة للبحر في سفينة أمينة بعدم قصر الصلاة لعدم المشقة، وليس بصحيح؛ لأن الشرع علَّق القصر على السفر, فيكفي أنه مظنة المشقة وهي غير منضبطة، ومثل ذلك السفر في السكة الحديدية والسيارة والمناطيد الجوية, فيسنُّ القصر في مسافته ولو قطعها في جزء يوم وأدركته الصلاة وهو في السفر، فلا يظن بالملكية أنهم يأخذون بالمصالح المعارضة بالنص، نعم إذا عارضتها مصلحة أخرى يجتهدون في تقديم ما يظهر لهم أنها أقوى كضرب المتهم كما سبق.

مسألة إرهاب المنكر حتى يقر:

في نيل الابتهاج في ترجمة حسن بن علي المسيلي قاضي بجاية إنه استناب حفيده فيها لمرضه, وكان له نبل فتحاكمت عنده أمرأتان, ادَّعت إحداهما على الأخرى أنها أعارتها حليًّا, وأنكرت الأخرى, فشدد على المنكرة وأوهمها حتى اعترفت، فلما حكى له حفيدة القصة فرحًا بما توصّل إليه من الحق، أنكر عليه أشد نكير وقال: إنما النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البينة على المدعي, واليمين على من أنكر" ٢، وأشهد بتأخيره.


١ هو يحيى بن يحيى بن بكير بن وسيلاس الليثي، أخذ عن مالك، وقدم الأندلس, وانتهت إليه الفتوى بها، وكان الأمير عبد الرحمن بن الحكم يبجله ويستشيره، وانظر القصة المشار إليها في ترجمته في "ترتيب المدراك للقاضي عياض" "٢/ ٥٣٤".
٢ هذا اللفظ رواه البيهقي في السنن، وقال النووي أنه حسن "كشف الخفا" "١/ ٣٤٢"، =

<<  <  ج: ص:  >  >>