للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" ١, فاتباع النظر والقياس انخلاع عن قيد الشرع.

وكم لهم من عبارة قاسية ضد أهل الرأي, حتى إنهم إذا عابوا أحدًا قالوا: إنه عراقي أو من أهل الرأي، وانضاف إليهم المتكلمون من أهل السنة, فرأوا أن الشريعة تعبُّد محض لا نظر فيه ولا مجال للقياس والرأي، فكل ما ثبت عن الشرع لزم التعبد به؛ لأنا إذا قلنا: إن هناك عللًا ومصالح لزم تعليل أفعال الله، والله منزَّه عن الغرض وأن يصله نَفْعٌ من خلقه، ويلزم أيضًا التحسين والتقبيح العقليان، وهذا مدار الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة, وإن خالف المتكلمون المحدثين في كون السنة أصلًا من أصول التشريع، ولهذا نجد بعض أتباع أبي حنيفة من رءوس المعتزلة؛ كبشر "١٥٦" بن غياث المريسي, الذي تنسب إليه المريسية, طائفة من المرجئة, المتوفى سنة "٢٦٧" سبع وستين ومائتين٢.

ومحمد "١٧٥" بن شجاع الثلجي, المتوفى سنة "٢٦٧" سبع وستين ومائتين٣ وغيرهما.

وكل هذه العواصف تلقَّاها الحنفية بصدر رحيب ولم يؤثر عليهم، فإنهم رأوا أن الشريعة ليست شريعة جمود وآصار، بل وضعت عنا الآصار التي كانت على مَنْ قلنا كما بينه القرآن، وهي شريعة عامَّة دائمة, ولا تدوم ولا تعم الأمم إلّا إذا كانت معقولة المعنى, ويتطور كثير من أحكماها بتطور الأحوال والأزمان والأمم، وقد عاينَّا في آيات وأحاديث الإرشاد إلى العلل والقياس كما سبق لنا ذلك.

وعلى كل حالٍ لا ينكِرُ القياس في الدين إلّا جامد جاهل به, والقرآن مملوء من الاستدال به على الكفار في العقائد, فأحرى الفروع.


١ رواه الجماعة: البخاري في الأحكام "٩/ ٨٩"، ومسلم في الأقضية "٥/ ١٢٩"، وأبو داود "٣/ ٣٠١"، والترمذي "٣/ ٦١٥"، والنسائي "٨/ ٢٠٥"، وابن ماجه "٢/ ٧٧٧".
٢ انظر ترجمته: في تاريخ بغداد "٤/ ٥٦"، وميزان الاعتدال "١/ ٣٢٢"، ولسان الميزان "٢/ ٢٩"، والنجوم الزاهرة "٢/ ٢٢٨".
٣ ترجمة الثلجي في: تاريخ بغداد "٥/ ٣٠٥"، والجواهر المضية "٢/ ٦٠"، وتذكرة الحفاظ "٢/ ١٨٤"، وميزان الاعتدال "٣/ ٥٧٧"، وتهذيب التهذيب "٩/ ٢٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>