للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة} ١ الآية، وقد فطر الله عباده على أن حكم النظير حكم نظيره, وحكم الشيء حكم مثيله، وعلى إنكار التفرقة بين المتماثلين والجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله شرعًا يأبى ذلك، وقد جعل الجزاء من جنس العمل، فمن أقال نادمًا أقال الله عثرته يوم القيامة، لا توكي فيوكي الله عليك، ومن ضارَّ مسلمًا ضارَّ الله به، إلى غير ذلك، وشريعتنا الحكمية منزَّهة عن أن تكون أوامرها ونواهيها مجرَّدة عن دفع المضارِّ وجلب المصالح، وكيف تأمر بشيء لمصلحة أو تنهى عن شيء لمفسدة، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة، وكيف لا تأمر بشيء توجد فيه تلك المصلحة، أو ما هو أكثر منها. هذا لا يعقل، لذلك فالقول بالقياس ليس مخصوصًا بالحنفية, بل هو عند سائر الأئمة إلّا قليلًا.

وإنما الحنفية لهم نوع توسع عيب عليهم الإغراق فيه فقط، قال المزني٢: الفقهاء من عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا, وهلمَّ جرَّا, استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم, وأجمعوا بأن نظير الحق حق, ونظير الباطل باطل, فلا يجوز لأحد إنكار القياس, وذلك كله لا ينافي كون السنة أصلًا أصيلًا إذا وجدت وتوفرت فيها الشروط, أما عند فقدها فالقياس أصل يرجع إليه إذا وجد له أصل معين يُقَاسُ عليه، وإلّا فنرجع للأصول العامة وهو الاستحسان.

أما ما اعتبرناه عللًا فليس هو ما يقصدون من تعليل أفعال الله حتى يكون فاعلًا بالعلة والاضطرار, لجعلكم العلل عقلية, فحاشاه من ذلك -جلَّ وعلا، وإنما هي علل شرعية, علَّلَ الشارع الحكم بها وأداره عليها وجودًا وعدمًا, ونصبها أمارات عليه، فلا غرض ولا علة لأفعال الله، ثم هناك مصالح وحكم راجعة إلينا لا إليه تعالى.

كذلك مسألة التحسين والتقبيح لا مساس لها بمسألتنا, وإنما ذلك خيال ومغالطة؛ لأن التحسين والتقبيح الذي ينكره الجميع هو استقلال العقل بالتحليل والتحريم, والثواب والعقاب, قبل الشرع وحكمه بالإيجاب عليه تعالى، وهذا


١ البقرة: ٢٥٩.
٢ إسماعيل بن يحيى. الانتقاء "١١١".

<<  <  ج: ص:  >  >>