خيرًا, إلّا أن المتأخرين لم يستعملوا الأصول لما وضع له من الاستنباط مع إيضاح الحق ليعمل به, بل استعملواه آلة جدال وغمتٍ للحق، فتجد الرجل يستدل لنفسه بالعام, فإذا ما استدلَّ به خصمه ردَّ عليه فقال: إن دلالته ظنية, وإنه لا يُعْمَل به قبل البحث عن المخصِّص, وإن كان عام دخله التخصيص، وتجده يستدل بالخاص, فإذا ما استدلَّ به خصمه رد عليه بأنه قضية عين لا عموم لها، وتجده يستدل بفعله -عليه السلام, فإذا استدلَّ به خصمه قال له: يحتمل أنه خصوصية, وما احتمل, واحتمل سقط به الاستدلال، وهكذا أكثروا من القواعد وعارضوا بعضها ببعض, ليتوصَّل كل واحد إلى أن يتمسَّك بما هو عليه لا يحيد عنه, ولم يبق عندهم استدلال إلّا الجدال, لا لظهور حقٍّ وإبانة باطل, وما اختلفوا إلّا من بعد ما جاءهم العلم سنة الله في الأمم.
هنا انتهى بنا الكلام على المجتهدين الثمانية الذين ألَّفت مذاهبهم من أهل القرن الثاني، وقد بينا لك بوجه إجمالي واضح قريب من التفصيل كيف كان الفقه في هذا العصر, والدرجة التي حصل عليها, وهذا عنفوان شبابه, وإن كان في القرن بعده وجد فيه مجتهدون آخرون, وخمسة منهم مَنْ دونت مذاهبهم أيضًا، ولكن الفقه دخل فيه في طور الكهولة كما نقرر، ولنذكر من كان من هذا العصر من مشاهير المجتهدين اجتهادًا مطلقًا غير ما سبق، ثم أصحاب أبي حنيفة ومالك.