وأما ما اعترضوا به من التمحلات في الأحكام لسابقة، فهو وارد على تمحل في بعض تلك الجزئيات، ولا يلزم من عدم إصابة البعض في بعض جزئيات القياس بطلان القياس كليا، وقد مهد الناس مسالك التعليل، وبينوا المقبول من المردود، والصحيح من الفاسد، وبينوا القوادح كذلك بما تكفلت به كتب الأصول، فذلك ميزان الاعتدال يفيد المقبول قوة وغيره ضعفا، وعلى حال المجازفة برد القياس أو غير الجلي منه لا يقبله من له إمعان في موارد الشريعة، وما كان عليه السلف الصالح في طرق اجتهادهم، وإن شئت بسطا في ذلك، فانظر أول المجلد من "إعلام الموقعين".
وعلى كل حال، فإن مذهب الظاهرية أثار في هذه المدة حربا عوانا تلاطمت أمواج حججة بين أهل القياس والظاهرية، وقد ارتفع عجاج المعترك إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق، وأتى كل حزب بما لا يسعه المجال هنا من الحجج التي تتضاءل لها أفكار النظار الكبار على أننا قدمنا الإشارة إلى أنها وإن كانت في الظاهر خلافا في المبدإ، لكنها ترجع إلى الخلاف في المسائل والجزئيات، وإلا فالقياس لا بد منه وذلك مبني على أصل نبينه:
هل لله في كل مسألة حكم؟ وهل النصوص وافية بالأحكام؟
قد انقسم المجتهدون في هاتين المسألتين ثلاثة أحزاب: حزب القياسيين يقولون: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا بعضهم فقال: ولا بعشر معشارها، قالوا: وكل مسألة لا بد من حكم لله فيها وعليه، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وحجتهم أن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي محال، لكن لا نسلم أن الحوادث غير متناهية؛ إذ هي داخلة الوجود حالا أو استقبالا، وكل ما كان كذلك فهو متناه، سلمنا عدم التناهي في الأفراد، لكنها تنضبط بالأنواع، فيحكم لكل نوع بحكم تندرج فيه الأفراد غير المتناهية مثلا المنكوحات من