بكثير، وما كانت تقدر على مفارقتي لا ليلًا ولا نهارًا. هذه السيدة الجليلة القدر كانت على جانب عظيم من التبتل والعبادة، صوامة، محافظة على أوقات الصلاة، حافظة للسانها وجوارحها عن الخروج عن عبادة الله تعالى، مكبة على طاعته، مشفقة على الضعفاء والمساكين وذوي العاهات، مواسية مَنْ يستحق المواساة، فكانت أفعالها وأخلاقها كلها دروسًا عملية علمية تهذيبية ينتفع بها من نفعه الله من العائلة كلها، أتلقاها عنها والفكر فارغ من غيرها، فكانت كنقش في حجر.
وطالما رغَّبتني بأنواع ما يرغب به الصبيان في القيام باكرًا، وإسباغ الوضوء للصلاة، والنظافة وحفظ الثياب، والاعتناء بكتاب الله، والمحافظة على أوقات المكتب، وحب المساكين، ورحمة الضعيف، وهجر كل ما ليس بمستحسن في الدين، وبثّ روح النشاط في الحفظ والتعليم، فهي التي غرست في قلبي عشق العالم، والهيام بحفظ القرآن العظيم، واعتياد الصلاة، والارتياض على الديانة بحالها ومقالها, لما كانت عليه من صلاح الأحوال، ومتانة الدين عن علم واعتقاد متين.
فمرآة أخلاقها وأعمالها في الحقيقة أول مدرسة ثقَّفت عواطفي، ونفثت في أفكاري روح الدين والفضيلة، فلم أشعر إلّا وأنا عاشق مغرم بالجد والنشاط, تارك لسفاسف الصبيان, متعود على حفظ الوقت ألَّا يذهب إلّا في ذلك، شيق إلى كل تعلم وتهذيب، لا أجد لذلك ألمًا ولا نصبًا، بل نشاطًا وداعية، امتزجت باللحم والدم، لذلك كان حفظي للقرآن والمتون قبل أقراني بكثير, وبدون كبير عناء، بل في الختمة الأولى حفظت الكتاب العزيز تقريبًا، وما زدت الثانية إلّا لزيادة الضبط وحفظ الرسم عن نشاط ومحبة داخلية من الضمير المتشوق بالأمل المناساق بعاطفة حب المعالي، وحب أداء الواجب الذي لأجله خلقت حسب ما تلهمني إليه عاطفتي, لا بإلزام خارجي. علي أن هذه التربية الجديدة المحضة قد أثرت على جسمي بضعف ونحول، وساعد ذلك التأثير عدم وجود نظام في المكتب، وعدم وجود لوازم الصحة