للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مالكي المذهب، واستدل على ذلك انظر "المدارك" ولا بعد في أن يكون مجتهدا لا هو شافعي ولا مالكي لما كان عليه من العلم الواسع، والفكر الشاسع، ويبعد أن يكون مثله مقلدا في ذلك العصر.

كان أول أمره معتزليا، أخذ عن أبي علي الجبائي، وأقام على ذلك ثلاثين سنة وهو من فحولهم المناضلين عن شبههم المشهورين بذلك، ماهرا في فلسفتهم العقلية المقتبسة من كتب اليونان والهنود وغيرهم، والتي كانوا بها ظاهرين مفحمين لأهل السنة مدة قرن ونصف، غير أنه لسعة أفكاره وعدم اقتصاره على شبههم وتآليفهم وأقوالهم، بل كان ماهرا مطلعا على أقوال السنة وكتبها، عارفا بأصولها لم يكن ضيق الفكر مزرر القميص لا يخرج عما ألقي إليه في صغره، بل أجال فكره في السنة والاعتزال معا، فرأى أن السنة هي الحق، وأن الاعتزال سفسطة وضلال، فلما تبين له ذلك بالبراهين العظام فكر فكرا عظيما، وأسس مبدأ جسيما وهو هدم قواعد الاعتزال بالآلات التي بنيت بها، وقتال أهلها بسلاحها الذي كان به ظهورها وهو الفلسفة نفسها، والبراهين العقلية الصحيحة، وضمها إلى نصوص الشريعة خلاف ما كان السلف عليه من نبذ الفلسفة التي كانت سبب ضلال المعتزلة، والاقتصار على قتالهم بالنصوص، والوقوف عن الخوض في بحر الفكر والنظر، فإن ذلك وإن نفع في الجملة، لكن لم يحسم داءهم العضال، وانظر إلى مالك لما سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ١ أجاب بأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وسلك طريق التفويض، وهو أسلم.

أما أبو الحسن الأشعري، فإنه بفضل ما مهر فيه من علوم الشريعة والفلسفة معا اخترع لهم سلاحا من نوع ما غلبوا به، فصعد يوم الجمعة كرسيا بمسجد البصرة التي هي كرسي المعتزلة ومنبعهم، ونادى: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا فلان كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم.


١ سورة طه الآية: ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>