وبهذه القضية وأمثالها يتبين أمامك ما آل إليه أمر الفقهاء، وتستنتج منها أحوال الأمراء إلا أن فقهاء الأندلس لم يقروا بخلاف فقهاء المشرق، فقد أقر الشاشي كل ما نسبه عظيم القسطنطينية لهم، وذلك لأن بني العباس كانوا في دور الانحطاط ببغداد بخلاف الأمويين بقرطبة، وما وقع من الناصر دليل أحوال ذلك الوقت، وإن السياسة غلبت الفقه، فصار تابعها لها على أنه أفضل من كل أمير بعده إلى زمن يوسف بن تاشفين اللمتوني.
وظهر في هذين القرنين أيضا كثرة الجدل بين علماء المذاهب لا بقصد إظهار الحق، ثم اتباعه، بل للاستطالة والحظوة أمام الحكام، فقد كانت المجالس تعقد لذلك في المساجد وأمام الوزراء والحكام بقصد التفاخر والتغالب والفلج.
وقد بسط حالهم الإمام الغزالي في "الإحياء" وبين آفات الجدل والمناظرة، وما المقصود منها في صدر الإسلام كزمن مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهم من إظهار الحق، ثم اتباعه؛ إذ لم يكونوا مقيدين بمذهب ملزمين به، بل لهم الحرية التامة في أفكارهم يميلون إلى الحق حيثما ظهر.
وقد صار الحال في التاريخ السابق إلى غير ذلك، وهو الانتصار للمذهب بأي طريقة كانت مع التقيد به، فكان العالم في بلاد المشرق من الشافعية، أو الحنفية غالبا إذا مات له قريبه، جلس بمسجد قريب من منزله، فيأتيه الناس للعزاء سبعة أيام يجتمعون عليه إما لتلاوة أو لمناظرة في المسائل، والانتصار لمذهب من المذاهب، فربما نشأ عن ذلك مشاجرات، بل لما كانوا يتناظرون في العقائد، كانت تقع مقاتلات، وتنشأ الحروب، فنبذوا ذلك، واقتصروا على المناظرة في المسائل الفرعية، لكن على الوجه المذكور.
ومن هنا نشأ علم المناظرة، وصار علما خاصا ويسمى بآداب البحث، وألفت فيه تآليف، وممن ألف فيه محمد بن سحنون في القرن الثالث، والقفال الكبير الشافعي في الرابع، كما سبق وغيرهما، وكان الملوك والوزراء يعقدون المجالس للمناظرة بحضرتهم ليعلموا حال علماء وقتهم ومن يستحق التقديم