تفشي سره، وتستحيينا قليلا، فلا تقابلنا بما استقبلنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين أيده الله لا يتمادي على هذا الرأي فينا، وأنه سيراجع بصيرته في تعزيزنا، فلو كنا عنده على الحال التي وصفتها عنه -ونعوذ بالله من ذلك- لبطل عليه كل ما صنعه وعقده وحله من أوله خلافته إلى هذا الوقت، فما ثبت له كتاب حرب ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس، ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا هذا ما عندنا والسلام.
ثم قام وتبعه أصحابه منصرفين، فوجه من ردهم وأكرمهم، وجبر خواطرهم، واعتذر عما فعله الوزير، وأمر لهم بكسوة وصلة لكل واحد علامة رضاه عنهم، وانصرفوا.
وكان أحد الفقهاء وهو محمد بن يحيى بن لبابة معزولا عن الشورى، فبعث للسلطان يقول: لو لم أكن معزولا لترخصت لمولانا وأفتيته بالجواز، وتقلدت ذلك، وناظرتهم بالحجة، فقد حجروا واسعا، فرده الناصر للشورى، ثم رفع إليهم مسألة ثانيا، فأصر الجميع على المنع، وتصدى ابن لبابة فقال: إن قول مالك هو الذي قاله الفقهاء، وأما العراقيون فلا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وحيث دعت الحاجة أمير المؤمنين، فما ينبغي أن يرد عليه، وله في المسألة فسحة وأنا أقول بقول العراقيين، وأتقلد ذلك. فقال الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، ومضوا عليه، واعتقدناه وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه، فقال ابن لبابة: ناشدتكم الله ألم تنزل بأحدكم ملمة بلغت بكم إلى الأخذ بقول غير مالك ترخصا لأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: فأمير المؤمنين أولى، فسكتوا فقال للقاضي: أنه إلى أمير المؤمنين فتياي، فجاء جوابه بتنفيذ فتوى ابن لبابة، وعوض بأملاك عظيمة القدر تزيد أضعافا، وتولى ابن لبابة خطة الوثائق، وعقد المعاوضة، وأمضى القاضي فتواه، وحكم بها، فلم يزل متقلدا خطتي الشورى والوثائق إلى أن مات رحمه الله سنة ٣٣٦ ست وثلاثين وثلاثمائة ومنزلته كما هي لطيفة من السلطان. صح باختصار من "المدارك" لعياض.