للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من اتساع الملك ما لم يكن لغيرهم قبلهم ولا بعدهم يبلغ ثلاثة أرباع العالم، وكان لهم الأسطول الضخم، والنظام الأتم، فكان الإسلام بينما هو يسقط في غرب أوربا إذا به يتقدم في شرقها، لكن لم يؤثر ذلك على الفقه بالتقدم، بل بالتأخر؛ لأن العواصم التي كانت مهد الفقه كبغداد وخراسان وسمرقند ودمشق ومصر والبصرة والكوفة والقيروان وتونس ومراكش وفاس وقرطبة وإشبيلية، ثم غرناطة، منها ما استولى عليه العدو أو الخراب، ومنها ما صارت ثانوية غير عواصم بل تابعة لدار الخلافة التي صارت هي القسطنطينية وأنت تعلم أن لسان الدولة المسيطرة هو التركية فلم يكن للعربية تقدم، بل تأخر، والفقه الإسلامي تابع للعربية في تقدمها وتأخرها؛ لأن مادته القرآن والسنة وهما عربيان، والعلماء الذين تصدروا للقضاء والإفتاء لسانهم أعجمي لا قبل لهم بفهم بلاغة القرآن والسنة، فلذلك لم يشتغلوا بالاجتهاد والاستنباط، بل بالتقليد والاقتصار على الشرح والتحشية، والاختصار لمؤلفات وجدوها سهلة، وجل ما ألفوه كانت اللكنة والصعوبة مستولية عليه كما يعلم ذلك بمطالعة كتب علماء هذه العصور. وقد جعلوا مركز مشيخة الإسلام في القسطنطينية وتمذهبوا بمذهب أبي حنيفة مقلدين، وكان القضاة والمفتون يتمذهبون به، فنال انتشارا عظيما أكثر مما كان زمن بني العباس؛ إذ لم يكونوا ملتزمين له كل الالتزام كما يعلم بمراجعة تراجم من تقدم في الطور الثالث قبله وفيما يأتي، وبقي الحال والإسلام على ذلك إلى أن رجع الترك القهقرى، وتسلط الروس والنمسا وغيرهما على بلاد الترك بالغزو والغارة، وانتزاع الممالك منهم، وفصل العناصر الأجنبية عنهم وغير الأجنبية، ثم أمم أوربا التي نهضت لمناهضتهم وهي أمم الاستعمار والفتح كالإنكليز وغيرهم، فصارت ممالك تركيا تنتهب، ويستقل البعض منها والباقي دخلته الفتن والثورات، وانفصمت العرى، وحلت المصائب بالبلاد الإسلامية فزاد الفقه والعلوم العربية تأخرا وهرما إلى وقتنا هذا الذي لم يبق فيه من الدين إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، ولله عاقبة الأمور. والله المسئول أن يجدد لهذه الأمة عصرا جديدا، وشرفا مجيدا آمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>