مما قضاه؟ وإذا جاز للإنسان أن يتسامح في حق نفسه، فيقبض الزائف، ويغضي عن العيب، فلا يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبا عنه كولي اليتيم الضعيف، ووكيل الغائب، فإذا فعل، كان خيانة للعهد، وإخفارا للذمة، ولكن قوما استوعروا طريق الحق، واستطابوا الدعة، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللا، وجعلوها شعارا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، واتخذوها جنة عند لقاء خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدل يتناظرون بها.
هذا وقد دس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة، فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير، وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلواه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين، يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه إلا فريقا من المؤلفين. فيا للرجال ويا للعقول أين يذهب بهم وأين يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم والله المستعان. ا. هـ. بخ.
وقال ابن العربي في "القواصم والعواصم": عطفنا عنان القول إلى مصائب نزلت بالعلماء في طريق الفتوى لما كثرت البدع، وتعاطت المبتدعة منصب الفقهاء، وتعلقت أطماع الجهال به، فنالوه بفساد الزمان ونفوذ وعد الصادق -صلى الله عليه وسلم- في قوله:"اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" ١ وبقيت الحال هكذا، فماتت العلوم إلا عند آحاد الناس، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، وذلك بقدر الله تعالى، وجعل الخلف منهم يتبع السلف حتى آلت الحال إلى أن لا ينظر في قول مالك وكبراء أصحابه ويقال: قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلنمكة وأهل طليطلة، وصار الصبي إذا عقل وسلكوا به أمثل طريقة لهم، علموه كتاب الله، ثم نقلوه إلى
١ أخرجه البخاري "١/ ١٧٤، ١٧٥"، ومسلم "٢٦٧٣" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.