وسمع أبا بكر الخطيب وغيرهم، ولي قضاء الدينور وغيرها من أعمال العراق، ثم ابتلي بالفقر الذي ألجأه لمفارقة بغداد إلى مصر، وقد ودعه جملة موفورة من أعلامها، وطوائف كثيرة، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت ببلدكم وأنشد:
لا تطلبن من المجبوب أولادا ... ولا السراب لتسقي منه ورادا
ومن يروم من الأرذال مكرمة ... كمن يروم من الأتبلن أوتادا
قال في "المدارك": ولعل سبب خروجه قصة جرت له لكلام قاله في الشافعي، فخاف على نفسه وطُلِبَ، فخرج فارا عنها. ا. هـ. وتوجه لمصر، فملأ أرضها وسماءها علما، وحمل لواءها، واستتبع سادتها وكبراءها، تناهت إليه الغرائب، وانثالت عليه الرغائب، وولي قضاء المالكية بها؛ إذ في عهد العبيديين صار بها قاضيان شيعي ومالكي، فمات لأول ما دخلها وهو الذي قال في مرض موته: لا إله إلا الله لما عشنا متنا.
وقضية القاضي هذه تدل على أن العبيديين لم يتمكنوا من إخضاع أفكار العلماء ولا العامة، وإن أخضعوا سيوف الدولة وقال في بغداد:
بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيق
أصبحت فيهم مضاعا بين أظهرهم ... كأنني مصحف في بيت زنديق
توفي رحمه الله سنة ٤٢٢ اثنين وعشرين وأربعمائة عن ثلاث وسبعين. وكما هو من عليه الفقهاء، فهو من أحسن الشعراء، ذكره ابن بسام في "الذخيرة" ومن شعره:
متى يصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد ... إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوما ... على الرفعاء من إحدى الرزايا