النقي. وكان يحذرني من تغلب العواطف على المصالح، ويحضني على مقاومة الحقائق للخيال، وعلى أن يكون العقل والدين سلطانًا حاكمًا على الخيال والعواطف، كما كان يحضني على حفظ القرآن وأشعار العرب وأمثالها, والأحاديث الصحاح، والوقائع التاريخية، واستنتاج العبر منها، وتطبيقها على الأحوال الوقتية، فكان نعم الأستاذ النافع، والله يحسن إليه بما أحسن لأوليائه المخلصين، لذا وذاك كنت أرى نفسي مطبوعًا على حب العلم والاشتغال به، بل الهيام المفرد فيه، راغبًا عَمَّا يعوق عنه.
وكنت لما بلغت سبع سنين أو نحوها, أدخلني لمكتب خصوصي ومعي أخوان صغيران، وبعض أبناء وبنات أحبائه الصغار أيضًا، فكنَّا نتلقَّى القرآن العظيم على الفقيه الزاهد البارع في علوم اللسان سيدي محمد بن عمر السودي, حفيد الشيخ التاودي الشهير، وتلميذ جنون الكبير، فقرأت عليه إلي يس, وعليه أتقنت الكتابة والقراءة والتجويد والرسم، ودروس الأخلاق، وبعض الحساب، ومبادئ الدين, وأقرأني بعض متون في العقائد والنحو، ثم انتقلنا لمكتب عموميٍّ بزقاق البغل، فأكملت حفظ القرآن العظيم على الأستاذ الصالح الناصح ذي الدين المتين الواضح، سيدي محمد بن الفقيه الورياجلي, المقرئ الشهير الذي تخرَّج به كثير من أعيان فاس وأعلامها، والأستاذ ذو مناقب جمة، ومقام عظيم, يكفي أن أقول في بعض ما رأيت منها، أني أقسم بالله: لقد جلست بين يديه سنين ملازمًا له في الجل من الغلس إلى المساء إلا الأوقات الضرورية ما رأيته إلّا في عبادة وطاعة، ولقد أحسن إليَّ تعليمًا وتهذيبًا، وبين يديه أكملت حفظ كتاب الله، وكثير من بقية المتون، ودرَّبَني على قواعد الإعراب، وفهم غريب القرآن، وعلمني كثيرًا من ضروريات العبادة، وألقح فكري بالتفكير، وعرفني عملًا وتخلقًا مقدار ما تساويه مكارم الأخلاق, معزز لما كنت ألقنه في البيت، والله يثيبه بأفضل وأعظم مثوبة.
وفي سنة ١٣٠٧ سبع وثلاثمائة وألف، دخلت القرويين لتلقِّي دورس العريبة والدين, وغيرهما الثانوية والعالية, على جلة الشيوخ الذين أحرزوا قصب السباق، وطارت شهرتهم في الآفاق، وقد ترجمت جملة منهم في الفهرسة،