المفدى بالنفوس، برز على غيره في علوم كالنحو والبيان والفقه توجيه القراءات، فكان فيها لا سيما النحو إذا وطئت أقدام فحوله الثرى، جاوز الثريا يملي تحقيقات دروسه من غير احتياج لكتاب ويشرح متن الألفية أولها بآخرها، ويملي من حفظه قواعدها وشواهدها، ثم شارك في بقية العلوم الإسلامية نقلية وعقلية مع ما أوتي من سهولة التعبير عما في الضمير، ولم يكن له في ذلك نظير، فكانت العويصات لديه ضروريات، فلا يقوم الطالب من درسه إلا محصلا، وبرع في تحصيل قواعد الفنون بشواهدها من كتاب وسنة، متعمق في استنتاج دقائقها العلمية، تارك لكثرة الأبحاث الفارغة اللفظية، جماع للنوادر، مطلع ماهر، يمازج درسه الزاهر بفكاهات تمازح الأفكار، وتذهب بالسآمة، وتصقل الأنظار، إلى لطف أخلاق وهيبة الاستقامة، فكثر النفع به في الأصقاع المغربية حضر وبوادي، وعمرت بمآثره النوادي، فملأت تلاميذه الكراسي والمنابر، وله الفضل على جميع أصحاب المحابر.
ولقد كان بطلا لا ترد شباة نقده، ولا تحل مبرمات عقده، بحر زخار نقاد نظار، إن قيل في غيره فضة، فهو النضار، درسه أعظم درس أدركنا، وأمتع ما رأينا، لازمت دروسه نحو خمسين سنين، وكرعت من بحوره الزاخرة باليمين، عربية وفقها وبيانا وفرائض وحسابا وتوحيدا، ومنطقا وحديثا وغيرها. وأول يوم جلست بين يديه كساني نوره، فوجدت من نفسي إدراكا وتحصيلا لم أجده قبله، فكان ذلك اليوم من أسعد أيامي انتقلت فيه من طور إلى طور، كأني كنت حيوانا فصرت إنسان أو كنت نائما، فأصبحت يقظانا، وأمسيت نشيطا جذلانا، اتخذته عمدتي، وأعددته عدتي والله يجازيه خيرا.
أما قدمه في الورع والزهد والتبتل والعبادة، ففي المكانة التي ما وراءها وراء، ولم أره مدة ملازمتي له إلا ناشرا للعلم، أو تاليا لكتاب الله بحرف أبي عمرو البصري، أو ذاكرا يقوم الليل تهجدا، وفي النهار تراه في نشر العلم ومطاردة الجهل مجاهدا.
تولى قضاء الصويرة، فكان مثال العدل والعفة والاستقامة مع دءوب على