٨١٩- أبو عبد الله محمد فتحا بن محمد بن عبد السلام جنون:
المستاري أصلا الفاسي مولدا وقرارا، من بيت بني جنون الشهير بفاس، وتقدم هذا السيد تحفة الدهر التي يقل لها الكفاء علما وبراعة، رواية ودراية، تقوي واستقامة، وسمتا وهداية نشأته سحبت من العفاف ذيلا، وغضت الطرف حتى عن الطيف ليلا، شاب نشأ في العبادة والإكباب على العلم، والتكفي بما خلفه أسلافه ذوو المجادة، فلم يزل خدن الصيانة، صلب الديانة في عفاف واستكانة، حافظا لناموس العلم، عالي الهمة، مترفعا عن كل ما لا يليق بذوي الأقدار، حتى يظنه الظان متكبرا معجبا، فإذا فاتحه الكلام، أدهشه ما يجده من تواضع، ومكارم أخلاق، فأيقن أنه فيلسوف حكيم، عرف أهل زمانه ففر بدينه، وأقبل على ما يبقى، وأشاح عما يفنى، وقنع بالكفاف، نظر إلى الدنيا نظر استخفاف. عكف على العلوم، وأعطى كليته إليها، ولم ترض همته إلا باقتنائها والغوص على جواهرها وانتقائها، ومع حداثة سنه حصل على ما عجز عنه الشيوخ، ووسم بمقام الرسوخ، وأعانه صفاء مرآة فكره التي ما كدرها اهتمام بمعيشة، ولا هم رياسة، أو خوض حمأة السياسة، فكان حافظا واعية، ضابطا متقنا، بارعا في سائر العلوم الموجودة في زمنه، بحر لا تساجل لجته، وبرهان لا تراجع حجته، مستقيمة محجته، أمعن في العلوم كل الإمعان، وتمكن من صياصيها تمكن العوائد من طبع الإنسان تحسبه في كل فن واضعه، ولا ينزل عويص إلا كان فارعه.
تجلت فيه المواجب الإلهية بأبهى مجاليها، فكنت إذا أردت الموازنة بين دروسه الحديثية والتفسيرة والتجويدية والفقهية إلخ. هل غلب عليه فن منها، فلا تجده إلا بارعا في الكل سواء براعة فحوله العظام وأئمته الأعلام، وذلك ما لم أره في غيره؛ إذ كل من رأينا يغلب عليه فن من الفنون، وهذا لفضل ذكائه، وقوة عارضته واقتداره، لا تجد براعته في واحد منها تنقص عن سواه، فسبحان