بلغ غاية الغاية في التحقيق، والفهم الدقيق، فكأنه ينظر للغيب من ستر رقيق، بل لا ستر بينه وبين المعارف إلا أن يلتفت إليها، فتتدلى له الأغصان بالقطائف، ولا يجتني إلا اللطائف إلى فصاحة تترك سحبان لو رآه باهتا، وقسا لاستحيائه ساكتا، إذا مررت بدرسه، ترى خطيبا بدون منبر، وبحرا يقذف أنفس الدرر، لم تحفظ عنه لحنة في دروسه الكثيرة في أنواع الفنون، فما كان ينتابها إلا المنتهون والنبهاء والمدرسون، لذلك أقول عن تحقيق: ما رأيت مثله، ولا رأى مثل نفسه فيما أظن حفظا وإتقانا لكل علم توجه إليه، وفصاحة وثبات جنان وطلاقة لسان، وتصرفا في العلوم وورعا واستكانة وعزوفا عن بهرجة الحياة. هذا مع نحول جسمه، ولطافة شكله، وخفة روحه ومهابته، وحسن بزته، وعمارة الوقت بعد نشر العلم بالأذكار والعبادة، قد لازمته بعد موت الوزاني مدة طويلة إلى أن أقعده المرض لم أتمالك على التخلف عن دروسه ومجالسته ومذاكرته، فانتفعت به كثيرا. فجزاه الله أحسن الجزاء فلا أحفظ أني رأيته إلا في عبادة.
كانت علوم اندرست أو ضعفت فأحياها، ونفخ روحا جديدة في طلابها، فابتهج محياها، درس علم التجويد بعدما درس، وأحيا قراءة التلخيص بمطول السعد بعدما بعد عهد هذه الديار بتهاطل تلك الأمطار، وذلك كله عطل بموته، وأحيا قراءة التفسير بالبيضاوي، لكن القاصرين لِمَ لَمْ يرق ذلك في أعينهم، فزعموا أنه يتسبب عنه موت السلطان، فشغلوه بولاية قضاء أسفى، ويا أسفي على العلم قضى عليه الحسد، وأذهب الروح وترك الجسد، لكن لم يلبث إلا نحو سنة، ثم استعفى فاعفي مشوقا إلى ما تعود من نشر العلم، طاهر الذيل، قائما بحقوق العدل، فرجع لدروسه تاركا التفسير في دروسه.
ولإكباب المترجم على الدروس الكثيرة، وإقبال التلاميذ عليها بإلحاح حيث انتهج في الإلقاء نهج الحفاظ الكبار إملاء كالبحر في مده، وتصرف بديع في التحصيل والبيان، وتبليغ مع تفيهم بليغ، كل من جلس في درسه لا يقدر