للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[منهج المذهبين وسبب الخلاف بينهما]

١- وضع البصريون قواعد عامة مستنبطة من الجزئيات التي تتبعوها في أكثر القبائل المشهورة، التي كانت بمنأى عن المواطن التي سرى فيها اللحن، ورأوا التزام هذه القواعد، والسير عليها، بدون حيدة عنها. وتمسكوا بصواب ما ذهبوا إليه على الرغم من تعدد القبائل واختلافها اختلافًا بينًا في اللغات واللهجات. وشجعهم على ذلك قرب البصرة من البادية، وتمشيًا مع قواعدهم أخذوا يؤولون كل ما خرج عن هذه القواعد، ولو كان مرويا عن الشعراء الموثوق بعربيتهم وبسلامة لغتهم، ويتكلفون في التخريج شططًا ليوافق مذهبهم، وإذا أعجزهم التأويل قالوا: إنه شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، أو ضرورة دعت إليها القافية، أو الوزن الشعري وأحيانًا يخطئون بعض العرب المعروفين بصواب القول وصدق العروبة؛ إذا جاء في أقوالهم ما يخالف قواعدهم. وقد نشأ عن ذلك إهدارهم لكثير من الاستعمالات العربية في بعض القبائل، واعتبروه خطأ أو شاذا، مع أنه في الواقع قد يكون غير ذلك، وما هو إلا لغة أو لهجة لهذه القبائل، وأحيانًا يصطنعون أبياتًا من الشعر للتدليل على آرائهم، وتمشيًا مع قواعدهم، وكانوا يرمون من وراء ذلك إلى تنظيم اللغة ولو بإهدار بعضها.

٢- أما الكوفيون فقد عنوا بكل ما سمعوا من شعر عربي، ورأوا احترام جميع ما ورد عن العرب، وأجازوا استعماله ولو لم يجر على تلك القواعد التي وضعها البصريون، وقد احتجوا بالشاهد الواحد، وبالشاهد المجهول قائله، وربما جعلوا من هذه الشواهد الفردية والشواذ أساسًا لقواعد أخرى. قيل إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، فيجعله أصلًا ويقيس عليه.

وقد كان الكوفيون أكثر رواية للشعر من البصريين، وكانوا يستنبطون بعض القواعد بالقياس النظري من غير حاجة إلى شاهد. أما البصريون فكانوا لا يستجيبون لكل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ، ولهذا كانوا أصح قياسًا من الكوفيين. ومن هنا نشأ خلاف بين الفريقين في كثير من الفروع النحوية.

<<  <  ج: ص:  >  >>