للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكلام السابق لو لم يكن لنكتة، لكان مفسد الكلام فلا يكون محسنا.

فإن قلت: إذا كان النقض لنكتة كان من دواخل البلاغة، فلا يكون تابعا.

قلت: كما أن التحسين قسمان، كذلك النكتة (كقوله) أي: زهير:

[(قف بالدّيار الّتي لم يعفها) أي: لم يمحها (القدم) أي: تقادم العهد (بلى) أي: بلى محاها القدم (وغيّرها الأرواح) جمع ريح كالرياح، والأرياح في الصحاح، وقد يجمع على أرواح؛ لأن أصله الواو قلب في الرياح ياء لكسر ما قبلها، وزال الكسر في أرواح كان وهذا من أبقى الياء قصد دفع الالتباس بالأرواح جمع روح، وقوله وغيرها الأرواح عطف على المحذوف بعد بل، كما أشرنا إليه فلا داعي إلى جعل الواو فيه زائدة، وجعله في قوة بل غيرها كما في الصحاح (والدّيم)] (١) جمع ديمة بالكسر، وهي مطر يدوم بلا رعد وبرق أو يدوم خمسة أو ستة أو سبعة أو يوما أو ليلة أو أقله ثلث النهار أو الليل أو أكثر ما بلغ دل الكلام السابق على أن تقادم العهد لم يمح الديار وآثارها فلما بدا له أنه كذب أراد الخبر بأنه محاها القدم وغيرها الأرواح والديم، فأتى بقوله بلى نقضا له؛ إذ لو قال: لم يعفها القدم محاها القدم كان كلاما واهيا موهما؛ لأن قائله يتفوه بما لا يشعر به، فلما قال: بلى، علم أنه نقض الكلام السابق، فجاء الإخبار يمحوها القدم وتغيرها الأرواح والديم مقبولا لطيفا.

وكذلك قوله [فأفّ لهذا الدّهر لا بل لأهله] (٢) فإن نقض السابق بقوله لا يحسن الإضراب، والنكتة في ذكر لا التنبيه على أن ما بعده إضراب لا ترق، والنكتة في الإخبار أولا بما هو غير واقع إظهار حدوث الكآبة والحزن والدهش والحيرة بالوقوف على الديار، على ما نقله المصنف، وإظهار أنه يمكن رسوم الديار في بصره، ويمكن خيالها في نفسه؛ بحيث لم يقف أولا أنه محا لقدم آثارها على ما نقول، وهذه النكتة مما هي من دواخل البلاغة، كما لا يخفى.


(١) البيت في ديوانه: ٧٨، وهو مطلع قصيدة قالها في مدح هرم بن سنان، وانظر البيت في الإيضاح:
٣١١، الإشارات: ٢٧١.
(٢) لا يعرف قائله. قوله: «أف» اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، والشاهد في أنه جعل التضجر من الدهر ثم رجع عنه وجعله من أهله، والنكتة هنا إظهار التحير، وقوله: «لا بل لأهله» على تقدير: لا أف للدهر بل أف لأهله.

<<  <  ج: ص:  >  >>