أشكل ذلك على بعض المتأخرين واستصعبوه فمنهم من غيّر تعريف المقدمة إلى ما يتوقف عليه الشروع مطلقا، أو على وجه البصيرة، أو على وجه زيادة البصيرة، ومنهم من قال: لا يذكر في مقدمة العلم ما لا يتوقف عليه الشروع، وإنما يذكر في مقدمة الكتاب، وفرّق بينهما؛ فإن مقدمة العلم ما يتوقف عليه مسائله، ومقدمة الكتاب طائفة من الألفاظ قدمت أمام المقصود لدلالتها على ما ينفع في تحصيل المقصود، سواء كان مما يتوقف المقصود عليه فيكون مقدمة العلم، أو لا فيكون من معاني مقدمة الكتاب، من غير أن يكون مقدمة العلم، وأيد ذلك بأنه يغنيك معرفة مقدمة الكتاب عن مظنة أن قولهم المقدمة في بيان حد العلم والغرض منه وموضوعه من قبيل جعل الشيء ظرفا لنفسه، وعن تكلفات في دفعه، ونحن نقول لا حاجة إلى تغيير تعريف المقدمة؛ فإن كلّا مما يذكر في المقدمة مما يتوقف عليه شروع في العلم هو إما أصل الشروع، أو شروع على وجه البصيرة، أو شروع على وجه زيادة البصيرة، فيصدق على الكل ما يتوقف عليه شروع، ولحمل الشروع على ما هو في حمل المعنى المنكر مساغ كما في ادخل السوق.
وأورد على المسلك الثاني أن إثبات مقدمة الكتاب إثبات اصطلاح جديد لا نقل عليه في كلامهم، ولا هو مفهوم من إطلاقاتهم، ولا ضرورة يلتجئ إليه، وفيه أن ما هو بصدده لا يتوقف على إثبات اصطلاح؛ بل يكفي أن يكون المراد بالمقدمة طائفة من الألفاظ الدالة على ما له نفع فيما يأتي، ولا شبهة في هذه الإرادة، وهذا القائل لم يصرح بدعوى الاصطلاح، ولو كانت مصرحا بها أيضا ليس في المناقشة معه في ذلك منفعة؛ لأنه يكفيه مجرد الاستعمال في هذا المعنى.
نعم فيما عرف به هذا القائل مقدمة العلم إنه صادق على المبادئ التصورية والتصديقية وكأنه أراد ما يتوقف عليه الشروع في مسائله.
واعلم أن المقدمة كثيرا ما يطلق على ما يستحق التقدم على بقية الباب أو الفصل، فالأظهر أن يقال: المقدمة اسم لما يتوقف عليه المباحث الآتية: فإن كان المباحث الآتية العلم برمته فهو مقدمة العلم، وإن كان بقية الباب فهو مقدمة الباب.