وفي هذا الكلام التنبيه على أنه يكفي في المجاز القرينة الصارفة، ولا تجب القرينة الموضحة لحقيقة الإسناد؛ بل رب مجاز حقيقته خفية لا يظهر، حتى أنكر الشيخ وجوب الحقيقة للمجاز، ورد على الشيخ إنكاره لأن الفعل يستحيل بدون المسند إليه، غايته أنه قد يكون خفيّا، ويعتبره النظر الصحيح لله تعالى، وإليه أشار بقوله:(وإما خفية كما في قولك: سرتني رؤيتك أي سرني الله عند رؤيتك) وتبع في هذا الرد الإمام الرازي (١) كما تبعه صاحب المفتاح؛ إلا أنه قال يجب أن يجعل المسند إليه ما ترضى به، يريد أنه لو كان المتكلم من يجعل خالق الأفعال الله تعالى، فاجعل حقيقة الإسناد إليه تعالى وإن كان من يجعل خالق أفعال العباد أنفسهم، فاجعل الحقيقة ما يناسبه، بل حقيقة ما قال إن الإسناد حقيقة لا يدور على الخلق، بل عند الحكم بأن الله خالق الأفعال كلها، ضرب زيد، وضرب الله مجاز، فحكم العقل فما نرضى أن يكون عند متكلمه فاعلا حقيقيّا، فاعتبر الحقيقة الإسناد إليه، والحق مع الشيخ؛ لأنه يريد أنه لا يجب في المجاز العقلي قصد حقيقة، ولا يجب أن يلاحظ للفعل فاعلا حقيقيّا محققّا، فإنك في:
أقدمني بلدك حق لا تقصد إقداما محققا، ولا تعدل من فاعله المحقق إلى السبب الذي هو الحق، بل تريد إفادة القدوم للحق، فتبالغ في سببيته الحق له، حتى كأنه فاعل، فيتوهم إقداما ومقدما، وتضع الحق موضع المقدم الموهوم مبالغة في سببيته، فمدار صدق هذا الكلام على وجود القدوم، ولا يطلب منك وجود الإقدام الموهوم، ولا يخفى أن الظاهر: سرني الله بسبب رؤيتك ليكون إسناد سرني إلى الرؤية إسنادا إلى السبب، وأما جعله إسنادا إلى الزمان فيحتاج إلى تقدير أي سرني زمان رؤيتك عنه مندرجة، ويمكن أن يوجه قوله عند رؤيتك بأنه ليس للتنبيه على أن الإسناد إلى الوقت بل للتنبيه على أن السببية عادية ما له وجود الفعل في هذا الوقت.
(وقوله) أي أبي نواس، على ما في الإيضاح، وهو ابن هانئ الشاعر المشهور، على ما في القاموس، قال الشارح: هو قول ابن المعذل، فمن قال لا ينافي بين قوليهما لجواز أن تكون له كنيتان لم يأت بشيء يرينا صفحتي قمر يفوق
(١) الرازي: هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني الرازي فخر الدين، ولد سنة ٥٤٤ هـ وتوفي سنة ٥٨٤ هـ.