الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدى، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى مني، فاهلّوا بالحج، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتي طلعت الشمس، وأمر بقبة من شَعَر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا إنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فاجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادى فخطب الناس وقال:
"إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس ابن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس:"اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات.
ثم أذن. ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا. ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَاتِ، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرِكَ رحله، ويقول بيده اليمنى:"أيها الناس السكينة السكينة" كلما أتي حبلا من الحبال