فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كالأخذ من كتب المرضيين، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ كبار الأصول فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه، ونزر خطه، وفأفنوا أعمارهم في حل رموزه، وفهم لغوزه، ولم يصلوا لرد ما فيه لأصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف والصحيح، بل حل مقفل وفهم مجمل.
فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم، وتريك ما غفل الناس عنه، ونقل عن شيخه الأبلي: لولا انقطاع الوحي، لنزل فينا أكثر مما نزل في بني إسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، إذ ذاك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في مشهورات كتب العلماء المستعملة فضلا عن كلام الله، وإنما هو بالتأويل، كما قال ابن عباس وغيره. ا. هـ. بخ نقله أو عبد الله الأندلسي في "الحلل السندسية".
ومنها: أنهم لما أغرقوا في الاختصار، صار لفظ المتن مغلقا لا يفهم إلا بواسطة الشراح، أو الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار وهو جمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة وتخفيف المشاق، وتكثير العلم، وتقليل الزمن، بل انعكس الأمر؛ إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن، فإذا ابن عرفة ألف مختصره مسابقا ابن الحاجب وخليلا في مضمار الاختصار، ففاتهما في الإغلاق في الاستغلاق، ولما كان يدرس هو منه تعريف الإجارة وهو قوله: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها.
وأورد عليه بعض تلاميذه أن زيادة لفظ "بعض" تنافي الاختصار، فما وجهه؟ فتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني بأنه لو أسقطها، لخرج النكاح المجعول صداقه منفعة ما يمكن نقله، وناقشه تلميذه الوانوغي وغيره بما يطول جلبه.
فتأمل وانظر أفكار الشيخ والتلاميذ التي اشتغلت هذا الزمن الكثير في حل عويصة وهي إقحام لفظ واحد لا أهمية له تفريعا ولا تأصيلا يومين، بل وبعده