اشتغل غيره أياما، ولا زلنا نشتغل كذلك، فذلك دليل أن الوقت ليس له عندهم ثمن، فالحمد لله الذي لم يتعبوا غيرهم فقط، والحمد لله الذي أخذوا حقهم مما أوقعونا فيه.
وأما من حيث المواد، وتقليل الأسفار، فقد وقع لهم غلط فيما أملوه وصرنا من جمع القلة إلى الكثرة، وذلك أن "المدونة" مثلا فيها نحو ثلاثة أسفار ضخام، وهي مفهومة بنفسها لا تحتاج لشرحها في غالب مواضعها لكن خليل لا يمكننا أن نفهمه ونثق بما فهمنا منه إلا بستة أسفار للخرشي، وثمانية للزرقاني، وثمانية للرهوني الجميع اثنان وعشرون سفرا مع طول الزمن المتضاعف في الدروس والمطالعة في تفهم العبارات المغلقة فلم يحصل المقصود من الاختصار، بل انعكس الأمر، وأصبحنا في التطويل، فأصبح علم الفقه يستغرق عمر الطالب، والمدرس لا يبقى مع فراغ لعلم غيره لمن يريد إتقانه، وتوقي الغلط فيه والطامة الكبرى هي عدم الوثوق بما فهمناه؛ لأن الاختصار تذهب عنه متانة الصراحة، وتأتي مرونة الإجمال والإبهام والإيهام حى صار يضرب المثل لكل عبارة إجمالية تحتمل احتمالات، فيقال: عبارة فقهية أو عدلية.
وقد ختم المختصر بعض أشياخنا تدريسا في نحو أربعين سنة، ومع هذا فإنما يحرر الفروع، ويسردها مسلمة، وأما الاطلاع من كتاب وسنة وإجماع وقياس، وعلة الحكم التي لأجلها شرع، وفهم أسرار الفقه، وما هناك من أفكار السلف، وكيفية استنباطهم ومداركهم، فكل ذلك فاتنا بفوات كتب الأقدمين الحلوية لذلك. ولقد فاتنا خير كثير، وقد كان تعليمه يعين على الملكة الصحيحة في الفقه، والفقيه الذي يستحق لقب فقيه هو العارف بذلك، أما الذي يسرد آلافا من مسائله غير عارف بأصلها فإنما حاك نقال.
ولقد كان أهل القرون الثامن والتاسع والعاشر يتبعون أكثر منا في تحصيل الفقه كانوا لا بد لهم من قراءة عدة كتب: تهذيب البراذعي الذي يقال له "المدونة" في تلك العصور، ومختصر ابن الحاجب وشروحه، ومختصر خليل وشروحه، وهكذا نجدهم في فهارسهم يذكرون كفهرسة الشيخ خروف التونسي الذي تقدمت