ومن يطالع طبقات السبكي يعلم مقدار ما حصل في القرون الوسطى من التعصب للمذاهب حتى إن أبا المظفر السمعاني قال: إن سبب رجوعه عن مذهب الحنفية على طول مناظراته فيه ثلاثين سنة أنه رأى ربه في المنام، فقال له: عد إلينا أبا المظفر فاستيقظ، ورجع إلى مذهب الشافعية.
وانظر ترجمته تعلم مقدار التعصب المذهبي في تلك العصور، وتعلم أن قولهم خلاف العلماء رحمة لما كانت الأخلاق مهذبة في الصدر الأول زمن الصحابة ومن بعدهم كمالك وابن حنبل وأضرابهما لا في هذا الزمن الذي ظهر فيه التعصب فقد صار الخلاف فيه نقمة وسبب الفرقة، كما أشار العياشي في الرحلة قائلا: من طاف الحجاز والعراق والشام وديار المشرق، ونزلت به نازلة أو نوازل في دينه يأنف أن يسأل من هو شافعي، فيعمل عن جهل، أو يسأل عاميا مثله، فيقول: قد رأيت سيدي فلانا أفتى مثل ما وقع لك بكذا وكذا، فيعمل بقول ذلك العامي الذي لا علم له يميز به بين المماثلة والمخالفية، وهذا ضلال كبير. ا. هـ.
وكم من عالم في الشام وغيرها أريد توظيفه في بلد أهلها حنابلة في الفتوى مثلا، فيلزم أن ينتقل من مذهبه الأصلي كالشافعي، ويصير حنبليا كي يكون مفتيا مع أن هذا سهل لا بأس به، ولكنه من أدلة ما كان لهم من التعصب الذميم. وهناك بالمشرق أوقاف خاصة بالشافعية، وأخرى بالحنفية مثلا ومدارس لا ينال التدريس بها إلا من كان مقلدا لأحد المذاهب الأربعة ووظائف كذلك من قضاء وفتوى، فكان هذا العمل مما أوجب بقاء العلماء مقلدين ولو بلغوا درجة الاجتهاد، وقد أشار أبو زرعة العراقي في شرح "جمع الجوامع" إلى أن الإمام السبكي الكبير بلغ رتبة الاجتهاد وما منعه إلا شيء من ذلك، ولله در الشعراني إذ يقول: إن أعدى عدو للإمام المهدي عند خروجه هم الفقهاء؛ لأنهم مقلدون
١ هذه الحكاية غير صحيحة من أصلها، ومحمود بن سبكتكين من فقهاء الحنفية وله تأليف في الفقه الحنفي منها التفريد وهو غاية الجودة وكثرة المسائل كذا في "الجواهر المضية" "٢/ ١٥٧".