وفي "التسهيل": وإذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر فهمه على كثير من المتقدمين، أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن حميد الأوصاف، وأشار إلى هذا المعنى في خطبة "القاموس" مستدلا بقول المبرة: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا بحدثانه يهتضم المصيب ولكن يعطي كل ما يستحق.
وفي "المعيار" عن الإمام محمد بن أحمد بن مرزوق أنه كتب على قول عصريه الخطيب الغبريني التونسي: لم يكن بمغربنا هذا كله من القرن الخامس فضلا عن الثامن مجتهد في الأحكام الشرعية مستقل: ما نصه: أما الاجتهاد في الفروع المذهبية، فما خلت منه البلاد، ولا عدمته هذه الأمة، وهذا سبيلك يا سيدنا الخطيب ومن أجله تصدرت، وبه اشتهرت، ولولا النظر في ترجيح الأقوال، والتنبيه على مسالك التعليل، ومدارك الأدلة، وبيان تنزيل الفروع على الأصول، وإيضاح المشكل، وتقييد المهمل، ومقابلة بعض الأقوال ببعض، والنظر في تقوية قويها، وتضعيف ضعيفها لتعطلت الدروس، وخلت المدارس، وأي فائدة للمدارس غير هذا وتعليمه وإيضاحه للطالب ولو لم يكن وظيف إلا سرد الأحكام، ونقل الأقوال، لما افتقر إلى المدارس مفتقر، وهل يجري على تدريسك ولسانك صباحا مساء غير هذا بحثا وإلقاء.
إلى أن قال: وقد وقع البحث في هذه المسألة بين علماء الديار المصرية أيام مقامي بها كقاضي القضاة جلال الدين القزويني، وشمس الدين الأصبهاني الدمشقي، وتاج الدين التبريزي ونظرائهم من فحول العلماء، وكبار الأئمة وحفاظ المحدثين، فاتفق رأيهم على أن هذا القرن لم يخل من مجتهد، ولا نقطع بنفيه لاتساع أقطار الأرض، واختلاف أنظار العلماء، وما يصدر عنهم من التصانيف والاختيارات الدالة على ذلك. ولا يتوصل إلى القطع إلا بالاستقراء، واتفقوا على أن الإمام عز الدين بن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد بلغا هذه