للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك. قلنا: هيهات ما حرمنا إلا ما حرم الله, ولا قلنا إلا ما قال الله, ألم تسمعوا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ١.

قلت: إن الشافعي أيضًا لم يخل من الاستحسان، فقد ثبت عنه: أن أمد الحمل أربع سنين, مع أن القياس يقتضي أن يكون تسعة أشهر؛ لأنه غالب ما يقع، والشريعة جاءت بالحكم بالغالب، فقد حكمت بأن ثلاثة قروء جريًا على الغالب في استبراء الرحم بالحيض، مع اتفاقهم على أن الحامل قد تحيض نادرًا، وقال أبو حنفية: سنتان، وعن أحمد روايتان كالقولين، وروي عن مالك: خمس سنين, وبه الفتوى، وعنه أربع, وهما قولان مشهوران في المذهب, وروي عنه سبع سنين, وروى أشهب إلى أن تضع ولو طال ما طال, وصحَّحَه ابن العربي. وقيل: ست سنين، وقيل: ما يراه النساء, وقال الظاهرية ومحمد بن الحكم: تسعة أشهر تمسكًا بالغالب الذي هو القياس, ومستند الأقوال السبعة قبله هو الاستحسان محافظةً على النسب, وسدًّا للذرائع, وسترًا على النساء اللاتي يقعن في ذلك؛ لأن إثبات الزنا عليهن صعب كما أشار له القرافي في الفرق "١٧٥"٢، فلهذا ترك الغالب, واعتبرت الصورة النادرة وإن لم يكن في المسألة نص من الشرع قاطع، وقول بعض الناس: إن نساء أوربا وأطباءها مجمعون على أن الجنين لا يمكن أن يمكث في البطن أكثر من تسعة أشهر وشيء يسير فغير مسلّم, فإن بعض أطبائهم قال بمثل ما يقول فقهاؤنا, فلا إجماع عندهم، سلمنا، فليس بحجة ولا من نوع الإجماع، بل هو استقراء ناقص لعدم تتبع نصف أفراد النساء, بل لا يتصور تتبع عشر العشر, وما لم يستقرأ فيه الأفراد فلا حجة فيه، على أن حجة الفقهاء في العمل بالنادرة قياسها على أقل الحمل, حيث اعتبر القرآن فيه النادرة احتياطًا, ولنا رسالة في المسألة.

ثم إن وقوع الشافعي في الاسحسان لعله هو الذي حمل ابن عربي في الفتوحات على تأويل مقالته السابقة على المدح فقال: مراده إن من حسن فقد


١ التحريم: ١.
٢ أحمد بن إدريس الصنهاجي المصري، أحد الأعلام من المالكية، له تصانيف كثيرة منها "الذخيرة" في فقه المالكية، "والأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام". ت. سنة ٦٨٤هـ, ودفن بالقرافة بمصر "الديباج المذهب" "١/ ٢٣٦", وترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع.

<<  <  ج: ص:  >  >>