قال ابن المديني: إن الله أعز الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة وابن حنبل يوم المحنة، وكفاك بابن المدين شاهدا عدلا، قال بشر الحافي قام أحمد مقام الأنبياء قد تداولته أربعة من الخلفاء بالضراء تارة، وبالسراء، أخرى، وهو معتصم بربه: المأمون، والمعتصم، والواثق، بالضرب والحبس وبعضهم بالإخافة والإرهاب، فما ترك دينه لشيء من ذلك، وبذلك صار زعيم حزب عظيم من أحزاب الإسلام حتى إن العلم إذا وضعه أحمد، لم يرتفع، وإذا رفعه، لم ينحط، وإذا قال في علم: نعم، صار مقبولا محبوبا ثم امتحن في أيام المتوكل بالتكريم والتعظيم، وبسط الدنيا، فما ركن إليها، ولا انتقل عن حالته الأولى، وذلك أنه امتحن محنة عظيمة ليقول بخلق القرآن ثمانية وعشرين شهرا وهو في العذاب ثابت محتسب، وكان ثباته سببا في الإفراج عنه وعن المسلمين.
جاءه المروذي يوما، وقال: يا أستاذ هؤلاء قدموك للضرب، والله يقول:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فقال: يا مروذي اخرج وانظر قال: فخرجت ونظرت في رحبة دار الخليفة، فرأيت خلقا كثيرا، والصحف والأقلام في أيديهم، فقلت: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه، فرجع إلى أحمد وأخبره، فقال: يا مروذي أضل هؤلاء، كلا بل أموت ولا أضلهم، قال المروذي: رجل هانت عليه نفسه في الله.
وقد ناظر ابن أبي دؤاد وهو في قيوده، فغلبه بالحجة، فانكشفت بسببه تلك الظلمة عن علماء السنة رحمهم الله، على أن محنته فيما يظهر كانت سياسية أكثر منه دينية، فإنها بإشارة من ابن أبي دؤاد الذي كان قاضيا، وله الحظوة التامة عند الخلفاء الثلاثة الأول، فلما كانت أيام المتوكل وغضب عليه وعلى ولده، وعزله عن القضاء والمظالم، وصادر ماله، أفرج عن أحمد، وبمراجعة ترجمة ابن أبي دؤاد في ابن خلكان١ وغيره يظهر لك ما قلناه.
١ ١/ ٨١، وانظر تاريخ بغداد ٤/ ١٤١، ١٥٦، ولسان الميزان ١/ ١٧.