للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تولى المتوكل نشر مذهب أهل السنة، ونصره وإيقاع المصائب بالمعتزلة أكثر مما أوقع سلفه بأهل السنة، فالمسألة كانت سياسية أكثر منها دينية بدليل أن الخلاف الذي هولوا به في مسألة الكلام تبين أنه لفظي؛ إذ الصفة القائمة بذاته تعالى قديمة، والمعتزلة لا يقرون بقيام الصفات بالقديم فرارا من تعدد القدماء والحروف والأصوات التي ننطق بها نحن حادثة وتعصب بعض المنتسبين لابن حنبل، فقالوا بقدمها، بل قالوا: إن الجلد وغلاف المصحف أزليان وهو جهل أو عناد، ومثله لا يعد في آراء أهل العلم. فتبين أنه لا خلاف إلا في إثبات قيام الصفات به تعالى، وهكذا جل الخلاف المنسوب للمعتزلة وأهل السنة آيل إلى هذا فهي مسائل حزبية سياسية لا مذهبية دينية١.

ومن أعجب ما يراه الناظر المتبصر في هذه المسألة أن ابن حنبل وحزبه تحرجوا أن يقولوا: إن القرآن مخلوق؛ لأنه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح وأنعم وأكرم بالوقوف عند حد ما ورد، لكنهم أنفسهم لم يقفوا عند حد ما ورد، بل قالوا: إنه غير مخلوق، وإنه قديم، وكلا اللفظين لم يردا أيضا، فكان الاعتراض مشترك الإلزام، بل ورد في القرآن: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} ٢ الآية، ولعمري أنه لا فرق بين محدث ومخلوق، بل الذي يقول: إنه قديم، وإنه غير مخلوق هو الذي بظاهر كلامه يناقض الوارد وإن كان قصده صحيحا؛ لأنه يريد المعنى القديم الذي هو صفة الحق سبحانه وهي قديمة كما أن من قال: مخلوق ومحدث يريد الأصوات والحروف، وعلى كل حال كل من كان حر الضمير واللسان يقف باهتا كيف وقع هذا الخلاف، وسفكت لأجله دماء، واستبيحت أعراض في لا شيء ما ذاك إلا أنها مسائل سياسية طليت


١ بل دينية أولا. فإن المعتزلة زعموا أن صفات الله تعالى غير ذاته، وسواه سبحانه مخلوق، فقالوا تبعا لهذا الزعم: إن القرآن وهو كلام الله مخلوق، وأهل السنة قائلون: إن صفات الله تعالى قديمه بقدمه سبحانه ومن تلك الصفات الكلام فنقول تبعا لهذا: إن القرآن هو كلام الله قديم غير مخلوق، وهو الحق.
٢ سورة الأنبياء: ٣ قال القرطبي: محدث يريد في النزول تلاوة جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية. تفسير القرطبي: ١١/ ٢٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>