للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجًا, واتسعت دائرة الإسلام, فانتشرت الأمة الإسلامية مادَّةً جناحيها من نهر الفانج في الهند شرقًا, إلى أفريقيا, ثم إلى أواسط أوروبا في زمن قليل إلّا باحترام الحقوق, والعلم بقواعد الفقه الإسلامي, والتسوية بين جميع أجناس البشر التي كانت تحضنها في العدل, وجمع شتات مكارم الأخلاق ومحاسن المعتقدات، وهذه التواريخ العربية وغيرها لم ينتقد واحد منها نظام العرب الذي كانوا عليه, بل مدحوه بما لم يمدحوا به غيره, واقتبسوا منه, واختارته الأمم على ما كان من الأنظمة, فانصرفت عنها إليه, وثلث عروش ملوكها من أجله.

فالأمة الإسلامية لا حياة لها بدون الفقه, ولا رابطة ولا جامعة تجمعها سوى رابطة الفقه وعقائد الإسلام، ولا تتعصَّب لأي جنسيبة, فهي دائمة بدوام الفقه, مضمحلة باضمحلاله, فمهما وجد أهل الفقه واتبعوا كانت الأمة الإسلامية، ومهما انعدم الفقه والفقهاء لم يبق للأمة اسم الإسلام.

ويجب على كل أمة إسلامية أرادت سنَّ قانون أو دستور أن تراعي هذا المبدأ حفظًا للجامعة الإسلامية.

ثم لما نهضت أوربا نهضتها المعروفة للرقي العصري, فأول حجر وضعته في أساس مدنيتها الزاهرة هو العدل وسن القوانين بالتسوية في الحقوق؛ إذ لا يعقل أن تترقَّى أمة وحقوقها مهضومة وأفرادها مظلومة, والكل يعلم أن بعض قوانينها مقتبسة من الفقه الإسلامي؛ كقانون نابليون الأول وغيره من ملوك أوروبا، فالفقه الإسلامي أصل التمدن العصري الحديث, والفضل كل الفضل في احترام الحقوق وصيانتها وتشييد منارها للإسلام والفقه الإسلامي. ومن مكارم الفقه الإسلامي, بل من معجزاته, أنه تمَّ نظامه وجمعه في مدة نحو عشر سنين كما يأتي في الطور الأول, فلم ينتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الدار الآخرة حتى تركه تامّ الأصول، ولم يمض على الأمة قرن ونصف حتى ألفت تآليف مهمة في فروعه، وبسط أحكامه وتطبيق أصوله على فروعه, وهذا لم يكن للأمم قبلنا، فهذه أمة الرومان التي يتبجح أهل التاريخ بقوانيها, ويعدونها أصل التمدن الحديث, لم ينضج فقهها ولا جمع نظامها إلا على عهد القيصر جوستينيان سنة ٥٦٥ قبل الهحرة بسنتنين "٥٧" سبع وخمسين، بعد مضي ثلاثة عشر قرنًا من حياة الرومان, ذلك ما يدلك على مكانة

<<  <  ج: ص:  >  >>