للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والذي يمعن النظر في تاريخ الفقه والتصوف يرى أن الناس في القرن الثالث قد تضلعوا في الفقه واشتغلوا بالكماليات وهي التصوف كما هو شأن الأشياء التي تصل إلى عنفوان العمر الطبيعي كالدول التي تدخل في طور الرفه واتساع الحال، وذلك أن التصوف فلسفة كمالية لعلمي التوحيد والفقه منزل منهما منزلة علم البديع من علمي المعاني والبيان من جملة المكملات التحسينية، والأصل فيه حديث جبريل في سؤاله عن الإحسان الذي هو إتقان الإيمان والإسلام، فالتصوف عملي رياضي أكثر منه علمي.

قال محمد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة، فاستقامت. هذا أساس التصوف، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ١ وقال عليه السلام: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ٢ والغاية منه إتقان العبادة، وإحسانها بالإخلاص فيها وتخليص النفس من رعونات النقائص، وتحليتها بالكمالات، وفهم أسرار العقائد والعبادات ودقائقها كما ينبغي، وبذلك يصل العارف إلى ربه، ومعناه أن يكون دائم الحضور لا تحصل له غفله حتى لا يخرج سياج الشريعة، ولا يخرج عن دائرة الامتثال كما قيل:

تركت للذات البهائم أهلها ... وهمت بما يعني به عالم المعنى

ثم هذه المجاهدة تنتج ذوقا في فهم كلام الله سبحانه، لكن بعد تحصيل الأدوات، وملازمة الخلوات، وتطهير القلب من الآفات، كما تنتج أيضا مشاهدة وكشفا عن عوالم غائبة، وذلك ما يعبرون عنه بالعلم اللدني أو علم الأذواق، أما إن لم تكن تقوى ولا اتباع طريق السنة والمجاهدة فإنما هي واردات ظلمانية،


١ العنكبوت: ٦٩.
٢ قال ابن حجر في "تسديد القوس": هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن عبلة. ا. هـ. وقال العراقي: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر ورواه الخطيب في "تاريخه" عن جابر بلفظ قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزاة فقال -صلى الله عليه وسلم: "قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدة العبد هواه" والمشهور على الألسنة "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" دون باقية فقيه اختصار. كشف الخفاء ص"٤٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>