الثالث: انقضاء دولتهم وإتيان دولة أخرى تريد تخريب مجد ما قبلها لتشيد مجدا جديدا، ثم إن الداعي لما فعله الموحدون ليس نصرة مذهب ظهر لهم صوابيته فقط، بل مع الانتقام من الفقهاء المالكية الذين أدركوا شأوا بعيدا أيام لمتونة قبلهم فيما يظهر لي.
قال في "المعجب": قد أدرك الفقهاء في أيام علي بن يوسف بن تاشفين وهي الثلث الأول من القرن السادس مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكام كبيرها وصغيرها موقوفة عليهم طول مدته، فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت أموالهم، واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول أبو جعفر بن البني الجياني:
أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
إلى أن قال: ولم يكن يحظى عند أمير المسلمين إلا من علم علم الفروع على مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمن كتب المذهب، وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمن يعتني بهما كل الاعتناء. ا. هـ. المراد.
قال الخطابي في "معالم السنن" المتوفى سنة ٣٨٨ ثمان وثمانين وثلاثمائة ما نصه: رأيت أهل العلم في زمننا قد انقسموا١ فرقتين: أصحاب الحديث، وأصحاب الفقه، وكل فرقة لا تنفك محتاجة إلى ما عند الأخرى؛ إذ الحديث
١ بلغ بهم الأنقسام إلى التنازع والخصام ذكر عياض في مداركه أن عيسى بن سعادة الفاسي لما توفي سنة ٣٥٥ تنازع فيه علماء فاس فيمن يصلي عليه الفقهاء والمحدثون كل يدعيه ويقول: إنه أحق بالصلاة عليه، وهذا نظير ما وقع بعد الصدر الأول من انسحاب القراء عن صف الفقهاء والمحدثين، وما وقع في هذا العصر من انفراد الصوفية عن الفقهاء وكثرة الفرق داعية إلى التلاشي والانحطاط ولله عاقبة الأمور. ا. هـ. مؤلف.