للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالوصل، والاقتراب، فبعد اليوم أطلب البعد ليساعد في الدهر وأهله بالقرب والحضور، أطلب حزن البعد لأفوز بالقرب والسرور.

وعلى ما حققه الشيخ أنه كنى بطلب بعد الدار عن توطين النفس عليه والسين لمجرد التأكيد، كأنه قال: إلى اليوم أطيب نفسي بالبعد وأحزانه، وأشيد بناء الصبر الجميل بأركانه، لأتسبب بذلك إلى وصل بتأبد، ومسرة لا تنفد إلى الأبد، فإن الصبر الجميل مفتاح الفرج، مع الأجر الجزيل بلا حرج، والأبلغ أن يجعل تسكب عطفا على أطلب فيكون تحت التأكيد، والشارح المحقق صوب بهذا المعنى، وجعل توجيه القوم تعسفا فاسد المبنى، ولم يرض به المرتضى الشريف، وقال: كلام القوم غير مستحق للتخطئة والتزييف، فتصويب الشارح كتصويب من قال: الصواب أن الشاعر يعتذر إلى العشيقة في التشمر للسفر ليتوسل به إلى أسباب معاشرتها في الحصر؛ إذ بالأموال يقتنص ظباء الغواني، ويتمتع بالوصال، وإلى مثل هذا المعنى أشار المتنبي حيث قال:

[لعلّ الله يجعله رحيلا ... يعين على الإقامة في ذراكا] (١)

فلكل من المعاني وجهة هو موليها، وقصد الشاعر موكول إليه، غيره لا يجليها، إذ لم يعرف أنه بصدد الظرافة أو في مقام إظهار الحكمة والكرامة، أو كان التكلم بهذا المقال في مقام السفر والارتحال، حتى يحكم بحقيقة الحال، فلا محال إلا لاستيفاء الاحتمال، ويمكن تقوية الشارح المحقق بأن ما يحتاج إلى معرفة حال الشاعر فالحق فيه متابعة السابق الماهر، وهو الشيخ عبد القاهر الذي يغلب حسن الظن به، ويقرب أن يكون حاله عليه الظاهر، ومن الاحتمالات التي هي أبدر إلى الفهم ما خطر ببالي وهو أن الشاعر قصد إلى أن تحصيل المطالب بأن يكون في الاستغناء عنها كالهارب، وترى نفسك عنه معرضا، فتراه لك متعرضا،


(١) البيت في ديوانه (٢/ ٣٣٥)، من قصيدة قالها عند وداعه لعضد الدولة في أول شعبان سنة أربع وخمسين وثلاث مائة، وهي آخر شعر قاله. ومطلعها:
فدى لك من يقصّر عن مداكا ... فلا ملك إذن إلا فداكا
ولو قلنا فدى لك من يساوى ... دعونا بالبقاء لمن قلاكا
والذرا: الكنف، لعل الله يجعل هذا الرحيل سببا للعودة فأقضي حوائجي، وأعود للإقامة في كنفك.

<<  <  ج: ص:  >  >>