للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن أكب على شيء فهو عنه يهرب، ومن أعرض فهو يقرب، ومن هذا حكم بأن الحرص شؤم، والحريص محروم، وقيل لو لم تطلب الرزق يطلبك، وفي حديث «زر غبّا تزدد حبّا» (١) منه شمة لمن له شامه، وإذا فرغت عن تحقيق معنى البيت فنقول: وبالجملة جعل سكب الدمع وهو البكاء كناية عما يلزم فراق الأحبة من الحزن، وأصاب لأنه واضح الانتقال، لأنه كثيرا ما يجعله دليلا عليه، ويراد به، وجعل جمود العين كناية عن السرور، قياسا على جعل السكب لمقابله، ولم يصبب لأن سكب الدمع قلما يفارق الحزن، بخلاف جمود العين، فإنه يعم أزمنة الخلو عن الحزن، سواء كان زمن السرور أو لا، فلا ينتقل منه إلى السرور، بل إلى الخلو من الحزن، وهذا وجه واضح للخلل في الانتقال إلى ما قصده، وإن خفى إلى الآن، وبه يندفع ما ذكره الشارح أنه يصح أن يراد بجمود العين خلوه عن الدمع مجازا، من باب استعمال المقيد في المطلق، ثم يكنى به عن المسرة لكونه لازما لها عادة، إذ عرفت أن الخلو ينفك عن السرور، لكنهم نظروا إلى أن جمود العين اشتهر في البخل بالدمع، بناء على اشتهار الجمود في البخل، حتى يقال للبخيل: جماد كقطام، ويقال جمد بمعنى بخل، ويستعمل الجمود في مقابلة الجواد حتى قال الحماسي (شعر):

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود (٢)

فظنوا أن اشتهار الجمود في البخل يمنع الانتقال من المعنى الحقيقي إلى غيره فمثله ومثل غيره من المعاني المجازية كمثل الشمس والكواكب حيث تختفي مع الشمس ولذا قال: (فإن الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع لا إلى ما قصده من السرور) فتعرض لما ينتقل منه إليه، ولم يكتف بما يهمه من أنه لا ينتقل منه إلى ما قصده تنبيها على أن الخلل في الانتقال ربما يكون من كمال ظهور معنى آخر فيحول بين اللفظ والمقصود، لكنه يتجه عليه أن ما ذكر في صدر


(١) صحيح، رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة، وانظر صحيح الجامع ح ٣٥٦٨.
(٢) البيت لأبي عطاء السندي في رثاء ابن هبيرة عند ما قتله المنصور يوم واسط بعد أن أمّنه، وواسط مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كنى فيه الشاعر بجمود العين عن بخلها بالدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع. انظر البيت في شرح الحماسة (٢/ ١٥١)، ودلائل الإعجاز (٢٦٩)، والإشارات والتنبيهات (١٢)، والإيضاح (٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>