. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[إحكام الأحكام]
قَدْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّهَا قَدْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى غَيْرِ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْآخَرِ. فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنْ اقْتَضَى الْمُدَاوَمَةَ أَوْ الْأَكْثَرِيَّةَ عَلَى السُّكُوتِ وَذَلِكَ الذِّكْرِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْمُدَاوَمَةَ - أَوْ الْأَكْثَرِيَّةَ - لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢] ، تَعَارُضًا.
وَهَذَا الْبَحْثُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْقِرَاءَةِ " مَجْرُورًا. فَإِنْ كَانَتْ لَفْظَةُ " كَانَ " لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى الْكَثْرَةِ. فَلَا تَعَارُضَ. إذْ قَدْ يَكْثُرَانِ جَمِيعًا. وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَذْكُرُهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ قَدْ اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا عَلَى الْوُجُوبِ. لَا لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، بَلْ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: ٧٢] خِطَابٌ مُجْمَلٌ، مُبَيَّنٌ بِالْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ الْمُبَيِّنُ لِلْمُجْمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ: يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ. فَيَدُلُّ مَجْمُوعُ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَإِذَا سَلَكْتَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَجَدْتَ أَفْعَالًا غَيْرَ وَاجِبَةٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَالَ ذَلِكَ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.
وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَحْثٌ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْخِطَابُ الْمُجْمَلُ يَتَبَيَّنُ بِأَوَّلِ الْأَفْعَالِ وُقُوعًا. فَإِذَا تَبَيَّنَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ بَعْدَهُ بَيَانًا، لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِالْأَوَّلِ. فَيَبْقَى فِعْلًا مُجَرَّدًا، لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ بَيَانًا. فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، بَلْ قَدْ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، كَرِوَايَةِ مَنْ رَأَى فِعْلًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَبَقَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَّةٌ يُقِيمُ الصَّلَاةَ فِيهَا. وَكَانَ هَذَا الرَّاوِي الرَّائِي مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ، الَّذِينَ حَصَلَ تَمْيِيزُهُمْ وَرُؤْيَتُهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ مُدَّةً. فَهَذَا مَقْطُوعٌ بِتَأَخُّرِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ مُدَّةٍ إذَا أَخْبَرَ بِرُؤْيَتِهِ لِلْفِعْلِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّأْخِيرِ. وَهَذَا تَحْقِيقٌ بَالِغٌ.
وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَمْرٍ جَدَلِيٍّ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: دَلَّ الْحَدِيثُ الْمُعَيَّنُ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِهِ وُقُوعًا، بِدَلَالَةِ الْأَصْلِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ بَيَانًا. وَهَذَا قَدْ يَقْوَى إذَا وَجَدْنَا فِعْلًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ. فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ مُبَيِّنًا بِدَلَالَةِ الْأَصْلِ عَلَى عَدَمِ غَيْرِهِ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ: لَزِمَ النَّسْخُ لِذَلِكَ الْوُجُوبِ الَّذِي ثَبَتَ أَوَّلًا فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute