١٨٨ - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ. فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ» .
ــ
[إحكام الأحكام]
[حَدِيثُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ]
وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هَذَا الصَّوْمَ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ. وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: صِحَّةُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ. وَالظَّاهِرِيَّةُ خَالَفَتْ فِيهِ - أَوْ بَعْضُهُمْ - بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِهِمْ لِلْإِضْمَارِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
[حَدِيثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ]
أُخِذَ مِنْ هَذَا: أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، مِمَّنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، أَوْ يُؤَدِّي بِهِ إلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ الْقُرُبَاتِ
وَيَكُونُ قَوْلُهُ " لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " مُنَزَّلًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ
وَالظَّاهِرِيَّةُ الْمَانِعُونَ مِنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ. وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَيَجِبُ أَنْ تَتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَعَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ مُجَرَّدِ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ، وَلَا تُجْرِيهِمَا مَجْرًى وَاحِدًا. فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى السَّبَبِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] بِسَبَبِ سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ. وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ بِالضَّرُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ: فَإِنَّهَا الدَّالَّةُ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ. وَهِيَ الْمُرْشِدَةُ إلَى بَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ، وَتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلَاتِ.
فَاضْبُطْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ. فَإِنَّهَا مُفِيدَةٌ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى. وَانْظُرْ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» مَعَ حِكَايَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَتَيْنِ هُوَ؟ فَنَزِّلْهُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّكُ بِالرُّخْصَةِ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا. وَلَا تُتْرَكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّعَمُّقِ.