بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ ١٩٧ - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ــ
[إحكام الأحكام]
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْوِصَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ: مَا اتَّصَلَ بِالْيَوْمِ الثَّانِي. فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْوِصَالُ إلَى السَّحَرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ " يَقْتَضِي تَسْمِيَتَهُ وِصَالًا. وَالنَّهْيُ عَنْ الْوِصَالِ يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ بِالتَّعْرِيضِ بِصَوْمِ الْيَوْمِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ بِمَثَابَةِ الْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَرَّضُ بِهِ الصَّوْمُ لِلْبُطْلَانِ
وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَدِيدَةً. وَإِنْ كَانَ صَوْمَ نَفْلٍ: فَفِيهِ التَّعَرُّضُ لِإِبْطَالِ مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَإِبْطَالُهَا: إمَّا مَمْنُوعٌ - عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - وَإِمَّا مَكْرُوهٌ. وَكَيْفَمَا كَانَ: فَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مَوْجُودَةٌ، إلَّا أَنَّهَا تَخْتَلِفُ رُتْبَتُهَا. فَإِنْ أَجَزْنَا الْإِفْطَارَ: كَانَتْ رُتْبَةُ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ أَخَفَّ مِنْ رُتْبَةِ الْكَرَاهَةِ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ قَطْعًا. وَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَهَلْ يَكُونُ كَالْكَرَاهَةِ فِي تَعْرِيضِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَسْتَوِيَانِ.
لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوُجُوبِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَالْمَصَالِحُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ أَقْوَى وَأَرْجَحُ؛ لِأَنَّهَا انْتَهَضَتْ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ. وَأَمَّا مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِالنَّذْرِ - وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ - فَلَا يُسَاوِيهِ فِي مِقْدَارِ الْمَصْلَحَةِ. فَإِنَّ الْوُجُوبَ هَهُنَا إنَّمَا هُوَ لِلْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيمَنْ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ.
وَهَذَا بِمُفْرَدِهِ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ فِي الْمَصَالِحِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ الثَّانِيَ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّذْرِ» مَعَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ. فَلَوْ كَانَ مُطْلَقُ الْوُجُوبِ مِمَّا يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمَنْذُورِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ: لَكَانَ فِعْلُ الطَّاعَةِ بَعْدَ النَّذْرِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهَا قَبْلَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ «مَا تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» وَيُحْمَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَحْثِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَكَانَ النَّذْرُ وَسِيلَةً إلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ. فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا، وَهَذَا عَلَى إجْرَاءِ النَّهْيِ عَنْ النَّذْرِ عَلَى عُمُومِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute