. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[إحكام الأحكام]
الثَّانِي: قَوْلُ " ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ فِي أَنْ أُحَدِّثَكَ " فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ لِلْأَكَابِرِ - لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ - لَا سِيَّمَا فِيمَا يُخَالِفُ مَقْصُودَهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَدْعَى لِلْقَبُولِ، لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ يُعْرَفُ مِنْهُ ارْتِكَابُ غَرَضِهِ، فَإِنَّ الْغِلْظَةَ عَلَيْهِ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِإِثَارَةِ نَفْسِهِ، وَمُعَانِدَةِ مَنْ يُخَاطِبُهُ.
وَقَوْلُهُ " أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ. وَوَعَاهُ قَلْبِي " تَحْقِيقٌ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ. وَقَوْلُهُ " سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ " نَفْيٌ لِوَهْمِ أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ " وَوَعَاهُ قَلْبِي " تَحْقِيقٌ لِفَهْمِهِ، وَالتَّثَبُّتُ فِي تَعَقُّلِ مَعْنَاهُ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ " فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا " يُؤْخَذُ مِنْهُ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ. وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ، فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ، فِي ذِكْرِ الْخَصَائِصِ: لَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ. قَالَ: حَتَّى لَوْ تَحَصَّنَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ فِيهَا وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا: أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْحَرَمِ: أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ إنْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ. فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى الطَّاعَةِ، وَيَدْخُلُوا فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، قَالَ وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُقَاتَلُونَ عَلَى الْبَغْيِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنْ الْبَغْيِ إلَّا بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَجُوزُ إضَاعَتُهَا، فَحِفْظُهَا فِي الْحَرَمِ أَوْلَى مِنْ إضَاعَتِهَا.
وَقِيلَ: إنَّ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ مِنْ كُتُبِ الْأُمِّ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسِيَرِ الْوَاقِدِيِّ. وَقِيلَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَابَ عَنْ الْأَحَادِيثِ: بِأَنَّ مَعْنَاهَا تَحْرِيمُ نَصْبِ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ بِمَا يَعُمُّ، كَالْمَنْجَنِيقِ وَغَيْرِهِ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ إصْلَاحُ الْحَالِ بِدُونِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْحَصَرَ الْكُفَّارُ فِي بَلَدٍ آخَرَ. فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَقُولُ: هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ الْقَوِيِّ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا» وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ خُصُوصِيَّتَهُ لِإِحْلَالِهَا لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَالَ " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ " فَأَبَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ: أَنَّ الْمَأْذُونَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ لِغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي أُذِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute