للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[إحكام الأحكام]

وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ نَادِرٌ، وَقَدْ أُبِيحَ قَتْلُهُ.

وَالثَّانِي: مُعَارَضَةُ النُّدْرَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِزِيَادَةِ قُوَّةِ الضَّرَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْفَأْرَةِ بِالنَّقْبِ - مَثَلًا - وَالْحِدَأَةِ بِخَطْفِ شَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يُسَاوِي مَا فِي الْأَسَدِ وَالْفَهْدِ مِنْ إتْلَافِ الْأَنْفُسِ؟ فَكَانَ إبَاحَةُ الْقَتْلِ أَوْلَى.

الْبَحْثُ الْخَامِسُ: اخْتَلَفُوا فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ. فَقِيلَ: هُوَ الْإِنْسِيُّ الْمُتَّخَذُ. وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا يَعْدُو، كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ. وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ " بِأَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِهِ. افْتَرَسَهُ السَّبُعُ " فَدَلَّ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالْكَلْبِ. وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلُونَ قَوْلَهُمْ: بِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكَلْبِ عَلَى غَيْرِ الْإِنْسِيِّ الْمُتَّخَذِ: خِلَافُ الْعُرْفِ. وَاللَّفْظَةُ إذَا نَقَلَهَا أَهْلُ الْعُرْفِ إلَى مَعْنًى، كَانَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْبَحْثُ السَّادِسُ: اخْتَلَفُوا فِي صِغَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مُنْقَسِمَةٌ. فَأَمَّا صِغَارُ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ: فَفِي قَتْلِهِمَا قَوْلَانِ لَهُمْ. وَالْمَشْهُورُ: الْقَتْلُ. وَدَلِيلُهُمْ عُمُومُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ " الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ " وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الْقَتْلَ لِلصِّغَارِ: فَاعْتَبَرَ الصِّفَةَ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا الْقَتْلَ، وَهِيَ " الْفِسْقُ " عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ إيمَاءُ اللَّفْظِ. وَهَذَا الْفِسْقُ مَعْدُومٌ فِي الصِّغَارِ حَقِيقَةً. وَالْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ. وَأَمَّا صِغَارُ الْكِلَابِ فَفِيهَا قَوْلَانِ لَهُمْ أَيْضًا. وَأَمَّا صِغَارُ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ: فَتُقْتَلُ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ وَالْإِطْلَاقِ: يَقْتَضِي أَنْ تَدْخُلَ الصِّغَارُ لِانْطِلَاقِ لَفْظِ " الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ " وَغَيْرِهِمَا عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْكَلْبُ الْعَقُورُ: فَإِنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُهُ بِصِفَةٍ تَتَقَيَّدُ الْإِبَاحَةُ بِهَا. لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الصَّغِيرِ، وَلَا هِيَ مَعْلُومَةُ الْوُجُودِ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ عِنْدَ الْكِبَرِ يَنْتَهِي بِطَبْعِهِ إلَى الْأَذَى قَطْعًا.

الْبَحْثُ السَّابِعُ: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ بَعْدَ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ مَثَلًا، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ إبَاحَةَ قَتْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَرَمِ: مُعَلَّلٌ بِالْفِسْقِ وَالْعُدْوَانِ فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ. وَالْقَاتِلُ عُدْوَانًا فَاسِقٌ بِعُدْوَانِهِ. فَتُوجَدُ الْعِلَّةُ فِي قَتْلِهِ، فَيُقْتَلُ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ. وَهَذِهِ الْفَوَاسِقُ فِسْقُهَا طَبْعِيٌّ. وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا. وَالْمُكَلَّفُ إذَا ارْتَكَبَ الْفِسْقَ هَاتِكٌ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ. فَهُوَ أَوْلَى بِإِقَامَةِ مُقْتَضَى الْفِسْقِ عَلَيْهِ. وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِالْهَيِّنِ. وَفِيهِ غَوْرٌ، فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>