للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

٣٩٥٦ - حدَّثنا سَعْدان بن يزيد، حدَّثنا إِسْحاقُ الأَزْرَقُ، حدَّثنا سُفيان الثوري (١)، عن سَلَمةَ بن كُهَيْلٍ، عن سَعيد بن جُبَير، عن ابن عُمر قال: "جَمَعَ رسول الله بينَ المغرِبَ والعِشاَءَ بِجَمْعٍ بِإقَامَةٍ وَاحِدَةٍ" (٢).


(١) موضع الالتقاء مع مسلم.
(٢) أخرجه مسلم في كتاب الحج -باب الإفاضة من عرفاتٍ إلى المُزدَلِفَة، واستحباب صلاتَيْ المغرِبِ والعِشَاء جمَيعا بالمزدلفة في هذه الليلة (٢/ ٩٣٨، ح ٢٩٠) عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن سلمةَ بن كُهيل به.
ويُقيِّدُ الإطلاقَ الواردَ في حديثِ مسلمٍ حديثُ البخاري في صحيحه: "لِكُلِّ واحدةٍ منهُما"، عقِب قولِه: "بِإقامةٍ واحِدَة"، حيثُ روى البخاريُّ الحديثَ في =
⦗١٢٣⦘ = صحيحه مع القيد المذكور في كتاب الحج -باب من جمع بينهما ولم يتطوَّع (ص ٢٧١، ح ١٦٧٣) عن آدم، وأخرجه أبو داود في سننه (ص ٢٢٣، ح ١٩٢٧) عن أحمد بن حنبل، عن حمَّاد بن خالد، كلاهما عن ابن أبي ذئب، عن الزُّهري عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر به.
وبما أنَّ قِصَّة جمعِ النَّبيّ بين المغرب والعشاء بمزدلفةَ كانت واقعةً واحدة، فإنَّ حديث ابن عمر بالزِّيادة المذكُورة عند البُخاري يُوافق ما رواه جابر في حديثه الطِّويل من أنَّه جَمَعَ بين المغرب والعشاء بأذانٍ واحد وإقَامَتين، وقد سبقَ أنَّ مسلمًا أخرجه في صحيحه مطوَّلا (٢/ ٨٨٦ - ٨٩٢، ح ١٤٧) عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله به، وفرَّقه أبو عوانة في مواضع من كتاب الحج، ومر الجزء المتعلِّق منه بالجمع بين صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة آنِفًا برقم / ٣٩٥٤ عن جابرٍ .
وقد اختلفتِ الروايات التي جاءت عن عددٍ من الصَّحابة في جمعِ النّبَيّ بين صلاتي المغرب والعشاء بمزدلفة، هل صلَّاهما بإقامتين أو إقامة واحدة أو غير ذلك، أبيِّنُ ذلك بما يلي:
أوَّلا: روى جابر قصَّةَ الجمع في حديثه الطَّويل الذي رواه عنه مسلم، أنَّه جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، ولم يرو عنه رواية إقامة واحدة إلا بإسناد ضعيف شاذّ.
ثانيا: روى أسامةُ بن زيد قصّة الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة، فأشار إلى إقامتين بدون ذكر عددها ولم يذكر الأذان، كما تقدَّم عند المصنِّف برقم / ٣٩٥٥، والحديث اتفق الشيخان على إخراجه. =
⦗١٢٤⦘ = ثالثا: وروي عن ابن مسعود موقوفا كما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج -باب من يصلي الفجر بجمعٍ (ص ٢٧٢، ح ١٦٨٣) بإسناده إلى عبد الرحمن بن يزيد أنَّه قال: "خرجت مع عبد الله إلى مكة، ثم قدمنا جمعا فصلى الصلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، والعَشاء بينهما … "، فذكر أذانين وإقامتين.
رابعا: ورواه أبو أيوب الأنصاري واختلف في لفظ حديثه، فأخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحجِّ -باب من جمع بينهما ولم يتطوَّع بينهما (ص ٢٧١، ح ١٦٧٤) عن خالد بن مخلد، وأخرجه مسلم في كتاب الحج -باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة … (٢/ ٩٣٧، ح ٢٨٥) عن يحيى بن يحيى النيسابوري، كلاهما عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عديِّ بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن أبي أيوب الأنصاري بلفظ" أنَّ رسول الله جَمع في حجة الوَداع بينَ المغرِب والعِشاء بالمُزدلِفة"، فلم يتعرض فيه لذكر الأذان والإقامة، وكذا رواه مالك موطئه (٢/ ٥٧١، ح ٩٩١)، وسيأتي عند المصنَّف برقم / ٣٩٦، ٣٩٦٦، ٣٩٦٧، على أنَّ الراوي عند المصنِّف عن يحيى بن سعيد زاد في الحديث الأخير قوله: "بإقامة واحدة".
خامسا: ورواه ابن عبَّاس عن أخيه الفضل بن عباس فلم يتعرض لذكر الإقامة والأذان، ولكن ذكر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمعٍ، وأخرج حديث ابن عباس ابن حبان في صحيحه (٩/ ١٦٨).
سادسا: روى ابن عمر قصّةَ الجمعِ واختلف عليه في ذلك: فرواه البخاري وأبو داود كما ذكر آنفا وغيرهما من طُرق عن ابن أبي ذئب عن الزُّهري، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر به، وفيه: أنَّه جمع بين المغرب =
⦗١٢٥⦘ = والعشاء بإقامة لكل واحدةٍ منهما، وهذه الرواية توافق حديث جابر وأسامة في ذكر الإقامة لكُلِّ صلاة.
ورواه مسلم في صحيحه وأبو عوانة (كما في هذ الباب) وغيرهما من طرُق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنَّه جمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة.
ورواه ابن حزم في حجة الوداع (ص ٢٨٦) بإسناده إلى طلق بن حبيب أنَّ ابن عمر جمع بين المغرب بجمع، قال: الصلاة للمغرب ولَمْ يُؤَذِّنْ ولَمْ يُقِمْ، ثُمَّ قال أيضا: للعِشاء ولَمْ يُؤَذِّنْ ولَمْ يُقِمْ"، قال ابن حزم: "رجاله ثقات"، وجاء عن ابن عُمر غيرُ ذلك أيضا.
وقدْ رجَّح العُلماء بين كُلِّ تلك الروايات حديثَ جابر ، وأنَّه جمع بين صلاتي المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد لهما، وإقامة واحدة لكل واحدة منهما، وذلك لما يلي:
أوَّلا: اعتناء جابر بحجة النَّبيِّ ونقله إيَّاها مستقصاة.
ثانيا: مع جابر زيادةُ علم، ومن علم حجَّة على من لم يعلم، والمثبت مقدَّم على النَّافي.
ثالثا: حديث ابن عمر حصل فيه نوع اضطراب في هذا الموضع منه.
رابعا: حديث ابن مسعود موقوف عليه من فعله.
خامسا: غاية حديث ابن عباس أن يكون شهادة على نفي الأذان والإقامة الثابتين ومن أثبتهما فمعه زيادةُ علم.
سادسا: ليس في حديث أسامة ذكر عدد الإقامة لهما، وسكَتَ عن الأذان، وليس سكوته عنه مقدما على حديث من أثبته سماعًا صريحا بل لو نفاه جملة لقدم عليه حديث من أثبته، لتضمنه زيادة على خفيت على النافي. =
⦗١٢٦⦘ = سابعا: أنَّه قد صح من حديث جابر في جمعه بعرفة: أنَّه جمع بينهما بأذان وإقامتين، ولم يأت في حديث ثابت قط خلافه، والجمع بين الصلاتين بمزدلفة كالجمع بينهما بعرفة، لا يفترقان إلا في التقديم والتأخير، فلو فرضنا تدافع أحاديث الجمع بمزدلفة جمُلةً لأخذنا حكم الجمع من جمع عرفة.
قال ابن حزم في المحلَّى: "فأمَّا الأخبار في ذلك، فبعضها بإقامة واحدة من طريق ابن عمر وابن عبَّاس وبعضها بإقامتين من طريق ابن عمر، وأسامة بن زيد وبعضُها بأذان واحد وإقامةٍ واحدة من طريق ابن عمر وبعضُها بأذان واحد وإقامتين من طريق جابرٍ، فاضطربت الروايةُ عن ابن عُمر إلا أنَّ إحدى الروايات عنه وعن أسامة بن زيد وعن جابر بن عبد الله زادت على الأخرى وعلى رواية ابن عباس إقامة، فوجب الأخذ بالزيادة وإحدى الروايات عنه وعن جابر تزيد على الأخرى وعلى رواية أسامة أذانا فوجب الأخذ بالزيادة لأنها رواية قائمة بنفسها صحيحة فلا يجوز خلافها، فإذا جمعت رواية سالم وعطاء عن ابن عمر صحَّ منهما أذان وإقامتان كما جاء بيِّنا في حديث جابر، وهذا هو الذي لا يجوز خلافه ولا حجَّة لمن خالف ذلك".
وقال في حجة الوداع: "إننا إنما ملنا إلى حديث جابر دون سائر الأحاديث لأننا نظرنا في حديث أبي أيوب وابن عمر الأوَّل فوجدناهما ليس فيهما ذكر لإقامة ولا أذان، ثم نظرنا في حديث ابن عباس وابن عمر الثاني فوجدنا فيه ذكر إقامة واحدة لكلتا الصلاتين، فكان في هذا الحديث ذكر إقامة زائدة على ما في حديث أبي أيوب، وزيادة العدل واجب الأخذ بها؛ لأنها فضل علم عنده لم يكن عند من لم يأت بتلك الزيادة، ومن علم حجة على من لم يعلم، ثم نظرنا في حديث أسامة وابن عمر الثالث؛ فوجدنا فيه ذكر إقامتين، لكل صلاة منهما إقامة، فكانت هذه أيضا =
⦗١٢٧⦘ = زيادة على ما في حديث ابن عباس يلزم الأخذ بها ولا بد لما ذكرنا آنفا، ونظرنا في حديث جابر وابن عُمر الرابع فكانت فيهما زيادة أذان على حديث أسامة وابن عبَّاس وأبي أيُّوب، وكانت في حديث جابر أيضا ذكر إقامتين فكان أتمَّ الأحاديث، ووجب الأخذ بما فيه، ولا بد لأنه فضل علم ذكره جابر ولم يذكره غيره فلزم الوقوف عنده، ولو صحَّ حديثا مسندا إلى رسول الله بمثل قول ابن مسعود الذي أخذ به مالك من أذانين وإقامتين لوجب المصير إليه لما فيه من الزيادة، ولكن لا سبيل إلى التقدم بين يدي الله ﷿ ورسوله ولا إلى التزيد على ما صحَّ عنه وبالله تعالى التوفيق".
وقال النَّووي: "وقد سبق في حديث جابر الطَّويل في صفة حجة النَّبيّ أنَّه أتى المُزدلِفَة فصلَّى بها المغربَ والعِشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، وهذه الرِّواية مقدَّمةٌ على الرِّوايتين الأُوليين لأنَّ مع جابرٍ زيادة علمٍ وزيادةُ الثِّقةِ مقبولةٌ، ولأنَّ جابرا اعتنى بالحديثِ ونقل حجَّة النَّبيِّ مُسْتَقْصاةً فهو أولى بالاعتماد".
وقال ابن القيِّم: "والصحيح في ذلك كله: الأخذ بحديث جابر، وهو الجمعُ بينهما بأذانٍ وإقامتين لوجهين اثنين، أحدُهما: أن الأحاديث سواء مضطربة مختلفة، فهذا حديث ابن عمر في غاية الاضطراب كما تقدم، فروي عن ابن عمر من فعله الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة، وروي عنه الجمع بينهما بإقامة واحدة، وروي عنه الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، وروي عنه مسندا إلى النَّبيِّ : الجمع بينهما بإقامة واحدة، وروي عنه مرفوعا الجمع بينهما بإقامتين، وعنه أيضا مرفوعا: الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وعنه مرفوعا الجمع بينهما دون ذكر أذان ولا إقامة، وهذه الروايات صحيحة عنه، فيسقط الأخذ بها، لاختلافها واضطرابها، وأما حديث ابن مسعود فإنه موقوف عليه من فعله، وأما حديث ابن عباس فغايته: أن يكون شهادة على نفي الأذان والإقامة الثابتين ومن أثبتهما فمعه =
⦗١٢٨⦘ = زيادة علم، وقد شهد على أمر ثابت عاينه وسمعه، وأما حديث أسامة فليس فيه الإتيان بعدد الإقامة لهما، وسكت عن الأذان، وليس سكوته عنه مقدما على حديث من أثبته سماعا صريحا، بل لو نفاه جملة لقُدِّمَ عليه حديث من أثبته، لتَضَمُّنِه زيادة على خفيت على النَّافي.
الوجه الثاني: أنَّه قد صحَّ من حديث جابر في جمعه بعرفة: أنَّه جمع بينهما بأذان وإقامتين، ولم يأت في حديث ثابت قط خلافه، والجمع بين الصلاتين بمزدلفة كالجمع بينهما بعرفة، لا يفترقان إلا في التقديم والتأخير، فلو فرضنا تدافع أحاديث الجمع بمزدلفة جملة لأخذنا حكم الجمع من جمع عرفة".
انظر: المحلى (٧/ ١٢٨ - ١٢٩)، حجة الوادع (٢٩٣ - ٢٩٤)، شرح النووي على مسلم (٩/ ٣٤)، تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (٥/ ٢٨٢ - ٢٨٦).